بلال شرارة
ونحن صغار, كنا نرابط على مفرق (عيناتا) منذ الصباح الباكر بانتظار ان تشرف بائعات اللبن قادمات من (عيترون) وننفذ أمر اليوم ونعود الى منازلنا ونحن نحمل ملء وعائنا (جبلية أو جبليتين) من اللبن و «الجبلية» هي مكيال بلدي متعارف عليه، وهو يوازي تماماً مقدار (طاستين) من اللبن، و(الطاسة) هي وعاء صغير من الالمنيوم تتسع لحوالي النصف ليتر من اللبن أو السوائل، وهي فـي معايير السياسة تتسع لكل شيء ولا تتبع لشيء (طاسة وضايعة).
ونحن صغار كنا نريد أن نفهم الحياة بقدر ما تفتح القرية صفحة قلبها أمام الصبية، كنا نريد أن نعرف أكثر من الجمل المركبة فـي الكتاب المدرسي وأكثر من لعبة (طاق طاق طاقية) التي نضيع فـيها حصة الرياضة. كنا نريد أن تنضج على نار سريعة , أن نرى ونسمع ونفهم , وكيف لنا ذلك والقرية منغلقة على أسواقها نبيع ونشتري , تتزود منها القرى بضائع وهي تتزود من القرى لبناً وحليباً.
ونحن صغار كنا نركض اذا رأينا غريباً يلج بوابة الحي عبر الطريق الاجبارية القادمة من الشمال لنرى ما يحمل: ولنحفظ نداء صوته : ولا زلنا نحفظ عن ظهر قلب نداء (ابو حسين) معنا صحون معنا كاسات, معنا فناجين قهوة)… كان أبو حسين يحمل على ظهره أواني مطبخية يكاد ينوء بحملها والشمس تجلده بسوط حرها والشتاء يدق عظامه بمسامير برده. ولكن نداء صوته كان رغم ذلك يدخل المنازل من أبوابها قوياً رتيباً واثقاً, وكانت نساء الحي تخرج تحملق وتحدق وتلمس و (تشارع) وتعل قلب (أبو حسين) قبل أن تشتري منه على أمل السداد على الموسم.
كنا صغاراً وكبرنا وتفرقنا فـي شارع المجتمع أو شارع السياسة او شارع الصحافة او شارع الموت…
وفـي شارع الصحافة رأينا وسمعنا عجائب لم نتخيلها فـي صغرنا ولم نرسمها فـي أحلامنا, هي غير الحدث اليومي أو التحليل أو الاستنتاج, هي غير ذلك كله , غير كلام السياسة المشاع أو المختبىء. وما كان غريباً وعجيباً هو (أبو حسين) شارع الصحافة الذي يملأ شارع المدينة صراخاً وهو ينادي (معنا مقالات, معنا تحليلات,(استراتيجية والتكتيكية) معنا استنتاجات, معنا مواقف على اليسار على اليمين ومعنا…)
«أبو حسين» المدينة غير (أبو حسين) الريف… ففـي الريف كنا كصفحة اليد المفتوحة حروفاً متصلة وادعة, أما فـي المدينة فنحن جميعاً كاليد المنغلقة المشدودة على القبضة حروفاً منفصلة قلقة.
هكذا نحن : صغاراً وكباراً, فـي الريف غيرنا فـي المدينة نتقمص شخصية الاسمنت, نتملق ونضحك فـي موعد (المسؤول) كشبابيك المدينة المفتوحة على التيه.
ونحن كبار نبيع كلاماً فـي كل موعد وعلى كل محطة, ربما السبب فـي ذلك يكمن فـي انه لم تعد هناك معايير للعلاقات وان الامر يقتضي حذاقة مختار الضيعة, وهي فـي تفسير المدينة تكتيك ملون يمارسه المسؤول لاستيعاب الموالاة والمعارضة والاعتراضات أو يمارسه الجمهور, كل لغاية فـي نفس يعقوب.
على هامش اللفلفة الجارية قد تنطوي هذه الصفحة قريباً لأن صراحتها لا تنطبق على الواقع ولأنها لا تبيع كلاماً فـي شارعي الصحافة والسياسة.
هكذا هي اللعبة فـي الصغر والكبر هل كنتم صغاراً؟ هل تذكرونها؟ أعيدها على مسامعكم: (اصبعي يلبس طربوشاً… اصبعي يخلع طربوشاً) وتستمر اللعبة…
Leave a Reply