فاطمة الزين هاشم
كيف لإنسان عربي أن يتنكّر للغته العربيّة وهي لغة القرآن الكريم؟ بحيث يقودنا إلى التساؤل اللاحق، كيف يكون مسلماً إذا لم يكن القرآن كتابه؟ هكذا يأخذني العجب من نماذج ينبثّون فـي أمّتنا العربيّة وشعوبها التي تحاول جاهدة أن تخطو نحو التقدّم فـيما ينبري الكثير من دعاتها نحو التصنّع ومن ثمّ التفرنج.
إنّ التنكّر للغة العربيّة من أفراد يطلعون من شعوبهم العربيّة، إنّما ينسحب عليهم إهانةً لأنفسهم بالذات، لأنّ لا شيء أخطر من محاولة قطع حبله السرّي الذي يربطه بلغته، فعندما ينقطع هذا الحبل أو يتعرّض للاهتزاز فإنّه سينعكس بصورة سلبيّة للغاية على مجمل الشخصيّة المعنيّة.
ففـي إحدى المناسبات الدينيّة على سبيل المثال، اعتلى المنبر خطيب، وكان الحضور الذي راح يخطب بهم جميعهم من العرب الذين يتكلمون العربيّة بإتقان، وكان هو عربيّاً أيضاً، وقد انفرجت أسارير الحضور لظنّهم أنّهم سيستمعون إلى خطابٍ من ابن جلدتهم يتساوق تماماً مع انسيابيّة تلقّيهم، غير أنّ ذلك المنبريّ بدأ خطابه بـ (السلام عليكم) وانتهى بـ (ثانك يو).
لم يتفوّه بكلمة واحدة من لغتهم، بل شرع باعوجاج فمه ونفخ صدره ليستعرض كلامه ظنّاً منه أنّه يوصل ثقافته إليهم، لكنّ الجميع أخذ يتململ رويداً رويداً وبدأ الانسحاب تدريجيّاً من القاعة وخاصّة كبار السنّ، كلّ ذلك بسبب عدم إتقانهم للغة الانكليزيّة، وكذلك بعد أن خيّب هذا الخطيب أملهم تماماً فـي إيصال المعلومة لهم باللغة التي يفهمونها هم ويتقنها هو والتي لم يستغلها جسراً ليوصل ما يريد أن يمدّهم بواسطته من ثمرات كلامه، فافتقد الوسيلة ليحالفه الفشل فـي ذلك، لأنّ الغرور عندما يصيب الفرد يؤدّي به إلى الفشل، حيث قاد الغرور الخطيب إلى عرض اللغة الأخرى وليس المعلومة ممّا جعله فـي موقفٍ وكأنّه يتكلّم مع نفسه.
من حقّ كلّ إنسان الاحتفاظ بلغة انتمائه واستعمالها بحرية، لكن هذه الحرية مقيّدة بالأجواء التي تلائمها إذ هي ليست سائبة، ومن هنا تبدو لي هذه الحرية أكثر أهميّة من حرية المعتقد، مثلما يبقى التطبيق هو الأهمّ بعد إعلان المبدأ، وبذلك يحتفظ الإنسان بحقّه المشروع فـي التكلّم بلغته انتمائه، فهل بإمكان اللغة إذا تعرّضت طويلاً للقمع أو للإهمال أن تستعيد مكانتها فـي المدى البعيد؟
وبالطبع لم تولد كلّ اللغات متساوية فـي الحجم أو الانتشار، فاللغة الانكليزية لا يمكن نكران حقيقة أنّها حظيت بانتشار واسع وموقعها الحالي كلغة عالميّة متفوّق، ممّا يتطلّب من كلّ من يعيش على الأرض أن يتقنها، ولكن هناك نسبة كبيرة من الأمّيين أو كبار السنّ ممّن فاتهم قطار العلم والتعليم لا يجيدونها أو فقدوا القدرة على تعلّمها، علينا الرأفة بهم ومراعاة ظروفهم فـي التكلّم معهم باللغة التي يفهمونها.
هنا فـي ديربورن وضواحيها وظّفت معظم المحلّات غير العربيّة عمّالاً عرباً لتسهيل الأمور على الزبائن، لكنّ الموظّف المحترم إذا سألته عن شيء يجيبك كلمة بالعربي والباقي بالإنكليزي ومن ثمّ يختم مستعجلاً: فهمت والّا…؟
وفـي المقابل نجد أنّ الأجانب شرعوا يتعلّمون اللغة العربيّة، بينما نحن العرب أصحابها نشحّ بها ونحاول طمسها فـي غياهب الجهل والغباء، فلنحافظ على لغة القرآن التي هي لغة أجدادنا، ولنعلّمها لأولادنا وأحفادنا ونجعلها أمانةً تسلّم من يد جيلٍ إلى آخر لأنّنا ننتمي إليها وتنتمي إلينا فهي عنوان هويّتنا.
Leave a Reply