كمال ذبيان
حصل ما كان متوقعاً وهو انفلات الساحة السّنّية من «تيار المستقبل»، وانفكاك عناصر منه ومؤيدين له، لصالح جماعات إسلامية متشددة، نمت وكبر حجمها تحت ظلاله وبإرادته وقراره، وكان الهدف من ذلك، خلق توازن رعب مع «حزب الله»، كما خطّط استراتيجيوه، الذين ساهموا فـي ظهور حالة الشيخ أحمد الأسير فـي مسجد بلال بن رباح فـي صيدا، تحت شعار ردّده مسؤولون مستقبليون ومنهم النائب بهية الحريري، إذا كان «حزب الله» لا يريدنا فـي السلطة وينقلب على الرئيس سعد الحريري ويخرجه من رئاسة الحكومة، فنحن نعرف كيف نتدبّر أمرنا معه، وهو السكوت عن ظاهرة الأسير الذي شكّل إرباكاً للحزب وأبناء الجنوب، كما فـي التعبئة المذهبية ضد الحزب وأمينه العام السيد حسن نصرالله، وتحريضه على الشيعة «الروافض».
فما كان جنوباً، جرى مثله شمالاً، حيث ترعرعت مجموعات مسلحة منها دينية متشددة، وأخرى من «قبضايات الأحياء» فـي طرابلس، وبعضها ينتمي الى «أفواج طرابلس» التي أسسها الضابط المتقاعد عميد حمود المسؤول فـي «تيار المستقبل»، حيث أشعلت هذه المجموعات خطوط التماس بين باب التبانة وجبل محسن، واستخدمت محاور القتال التي كان لها قادتها مثل زياد علوكي وسعد المصري وشادي المولوي وأسامة منصور وآخرين، فـي إرسال رسائل سياسية بعثها «تيار المستقبل» فـي كل مرة كان يريد تحقيق هدف سياسي له، إذ ومنذ العام 2008 أوصل أكثر من رسالة الى «حزب الله» وحلفائه فـي الداخل أو الى النظام السوري الذي كانت تربطه علاقة مع علي عيد ونجله رفعت وكانا يواجهان من جبل محسن (ذات الغالبية العلوية)، الهجمات والقذائف الصاروخية والمدفعية التي كانت تطلق من باب التبانة (ذات الكثافة السّنّيّة) لتبدأ إشتباكات بين الطرفـين، التي لم تتوقف إلا فـي العام 2009 بعد المصالحة السورية – السعودية وزيارة الحريري الى سوريا عقب ترؤسه الحكومة، التي ومنذ إقصائه عنها لصالح الرئيس نجيب ميقاتي عاشت طرابلس أكثر من 20 جولة قتال، والتي لم تتوقف إلا بعد استقالة الرئيس نجيب ميقاتي فـي آذار 2013.
فـي هذه الأجواء صعدت الجماعات التكفـيرية، وساعد فـي بروزها اشتعال الأحداث فـي سوريا، وتمكن «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» من السيطرة على الأرض فـي مناطق سورية واسعة، حيث ساهم دعم «تيار المستقبل» لما سمي «ثورة سورية» أو معارضة الى فتح الساحة السّنّية أمام مجموعات متطرفة، لاسيما فـي عرسال التي تحولت مع جرودها الى بلدة محتلة كما اعلن وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي شهد ومن موقعه الوزاري، ما جناه تياره السياسي على لبنان عموماً وأهل السُنة خصوصاً من تمكين التكفـيريين ليصبحوا قنبلة موقوتة فـي كل لحظة، فوقعت معارك عرسال بين الجيش والمسلحين، الذين أغاروا على المواقع العسكرية فـي 2 اب من العام الماضي ب عملية غدر وخيانة شارك فـيها مواطنون من عرسال، وخطفوا عسكريين من الجيش وقوى الأمن الداخلي لصالح الإرهابيين الذين تمركزوا فـي الجرود، وباتوا فـي مواجهة مع الجيش من جهة و«حزب الله» والجيش السوري من جهة ثانية.
ويحمّل «تيار المستقبل» «حزب الله» مسؤولية دخول المجموعات التكفـيرية الى لبنان، بسبب قتاله الى جانب النظام السوري، وهو تبرير لا يستند الى واقع ووقائع، لأن تنظيم «القاعدة» فـي لبنان سابق للأزمة السورية، وقتال «حزب الله» فـي سوريا، بل يعود وجوده الى معارك جرود الضنية مطلع عام 2000، بين الجيش وجماعة «التكفـير والهجرة» برئاسة أميرها بسام كنج (أبو عائشة) الذي يحمل الجنسية الأميركية، ثم فـي عدة عمليات تفجير واغتيال نفّذها إسلاميون متطرفون فـي لبنان، وقاد بعضها اسماعيل الخطيب الذي شارك فـي القتال بالعراق مع «أبو مصعب الزرقاوي»، الذي أفرز شاكر العبسي أمير تنظيم «فتح الإسلام» الذي أمره الرجل الثاني فـي «القاعدة» أيمن الظواهري بأن يحضر الى لبنان الذي تحول الى «أرض جهاد» لا «نصرة» لإقامة «إمارة إسلامية»، وهذا ما كاد يحصل، لولا اكتشاف هذه المجموعة فـي أيلول 2006، وبعد شهر على انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، إثر العدوان الصهيوني على لبنان والمقاومة فـي صيف ذاك العام، الذي وبعد أشهر من تلبية العبسي تمّ التمهيد لها بأعمال سلب وسطو وسرقة والإعتداء على الجيش الذي إنخرط فـي المواجهة العسكرية مع «فتح الإسلام» فـي مخيم نهر البارد .
فالتحريض الذي مارسه «تيار المستقبل» وحلفاؤه فـي 14 آذار، بالتنسيق مع مراجع عربية وإقليمية ودولية، على «حزب الله» والنظام السوري والسلطة فـي إيران، عبأ الرأي العام السني مذهبياً، واستفادت منه الجماعات التكفـيرية التي كانت تنظر الى «تيار المستقبل» على أنه علماني، وليس له علاقة بأهل السُنة إلا من باب تمثيلهم السياسي والنيابي لهم فـي ظروف وتحت وطأة جريمة اغتيال الرئيس رفـيق الحريري.
ومع عودة الحريرية السياسية الى رئاسة الحكومة عبر الرئيس تمام سلام، فإن المجموعات التي كانت تتحرك ميدانياً بأمر من «تيار المستقبل»، باتت عاطلة عن العمل، بعد أن أبلغها مسؤولون فـي المستقبل، أن الإستقرار هو عنوان هذه المرحلة، وعلى أمراء المحاور تسليم أنفسهم الى القوى الأمنية لتحصل محاكمتهم، فكان توقيف للمسلحين مع أمراء المحاور، حيث انطلت الخدعة عليهم، ولم يتم الإفراج عنهم بعد ، مما دفعهم الى الإعلان أن «تيار المستقبل» هو الذي كان يسلّحهم ويموّلهم، وأن مسؤولين فـيه يجب أن يكونوا فـي السجن، إضافة الى أن الموقوفـين الإسلاميين انتظروا الإفراج عنهم، كما حصل مع موقوفـي الضنية فـي صيف 2005 عندما صدر عفو عنهم فلم يحصلوا عليه .
فكل هذه التطورات تكشف عن أن «تيار المستقبل» استغلّ الإسلاميين فـي معاركه السياسية، وهم استفادوا منه فـي مشاريعهم، الى أن تشكّلت حكومة الرئيس تمام سلام، فبات على «تيار المستقبل» أن يستعيد ساحته من المجموعات المسلحة، بعد أن دخل «حزب الله» طرفاً أو شريكاً معه فـي الحكومة، وفتح حواراً معه بدأ مع المشنوق الذي قرّر التنسيق مع الحزب فـي تنفـيذ خطط أمنية، التي بدأت من عاصمة الشمال التي أوقفت المعارك فـيها، ثمّ تمددت الى البقاع، ووصلت الى سجن روميه الذي كانت تديره مجموعات تكفـيرية أنشأت غرفة عمليات داخله بعد أن خلعت الأبواب وفتحت الغرف على بعضها لاسيما فـي المبنى «ب» الذي كان الإسلاميون فـيه، الى أن تمّ نقلهم الى المبنى «د» بعد أكثر من عملية تمرّد كان اخرها قبل أكثر من شهرين، نجح خلالها وزير الداخلية فـي ضبط السجن وإعادته الى الدولة، وإسقاط «الإمارة الإسلامية» داخله، وهو لم يرتح له وزير العدل أشرف ريفـي كذلك لم يرق له ما يقوم به المشنوق الذي أحرج المدير العام لقوى الأمن الداخلي السابق الذي حظي الموقوفون الإسلاميون بالتسهيلات فـي عهده، فأصبحوا أسياد السجن يقيمون فـيه محكمتهم الشرعية، ويصدرون الأحكام بإعدام سجناء ، ونفذوها بسجينين، وتعذيب اخرين الى أن قضى المشنوق على هذه المكتسبات فشنت عليه حملات من «هيئة العلماء المسلمين» وجماعات إسلامية، على أنه مرتد عن «الإسلام» وهو علماني وله ارتباطات غربية، وتمّ تكفـيره وتحليل إهدار دمه، بعد أن ظهر شريط قديم مصور داخل السجن يظهر فـيه تعذيب لسجناء إسلاميين على يد عناصر من شعبة المعلومات التابعة لقوى الأمن الداخلي، والمحسوب قائدها الحالي العميد عماد عثمان كما السابق اللواء وسام الحسن الذي اغتيل بتفجير قبل عامين على يد «تيار المستقبل»، وهو ما خلق إرباكاً داخل الساحة السنّيّة عموماً وبين صفوف الإسلاميين والسلفـيين منهم خصوصاً، فركب اللواء ريفـي موجتهم واستفاد من ما ظهر فـي الفـيلم، وحمّل «حزب الله» والنظام السوري بما حصل، حيث لم ينطلِ هذا التضليل على أحد، وأن الوزير ريفـي رفع سقف المزايدة والمواقف المتشددة ليكسب شعبية تعوّد عليها منذ كان مسؤولاً فـي قوى الأمن، بنشر صوره، ورفع لافتات تأييد له، كي يتحول الى رمز سياسي طُرح اسمه للنيابة ورئاسة الحكومة، وليس أمامه إلا إزاحة الوزير المشنوق الذي حقق إنجازات فـي وزارة الداخلية، ولم يكن خطابه السياسي متطرفاً وأيّد الحوار مع «حزب الله» وانفتح على كل التيارات السياسية الحليفة أو ضده سياسياً، فـي وقت كان ريفـي يتطرف فـي مواقفه السياسية، ويكسب عداوات سياسية، ويتماهى مع جماعات خارجة على الدولة وهو الآتي من مؤسستها الأمنية التي خدم فـيها حوالي 40 عاماً وترأسها، وهذا ما اظهر عن انقسامات داخل تيار المستقبل وترك إنطباعات سلبية عند أطراف لبنانية حول سلوك ريفـي الذي لم يكن يُعرف بهذا التطرف، وهو ما شكّل مفاجأة للبنانيين الذين شهدوا له فـي بعض المراحل على أدائه الجيد.
فشريط سجن روميه الذي أظهر تعذيب سجناء، وهو ما عرفه لبنان فـي تاريخه الحديث، إذ أن كل العهود الرئاسية والحكومات والأنظمة الأمنية مارست التنكيل والتعذيب على خصومها، من كل الألوان السياسية والحزبية لكن تصوير فـيلم أثناء التعذيب الذي حصل قبل أكثر من شهرين، وأثناء قمع تمرد لسجناء، إظهاره فـي هذا التوقيت الذي يمر فـيه لبنان بأزمات دستورية وسياسية واقتصادية وهموم أمنية، يؤكّد أن مَن قام بذلك، إنما قصد إعطاء جرعة دعم للجماعات التكفـيرية التي تنكفئ عند الحدود فـي السلسلة الشرقية فـي جرود عرسال وبعلبك، لتظهر فـي الداخل اللبناني، باستغلال شريط التعذيب لتحريك خلايا نائمة تربك الوضع الأمني، لتخفف عن المسلحين المحاصرين فـي جرود عرسال ومنهم 150 عنصراً من «جبهة النصرة» التي توعدت المشنوق بالثأر من السجناء، وهددت باستهداف مراكز أمنية وعسكرية، إضافة الى تمرير رسالة الى «حزب الله» الذي حشره ريفـي بالشريط ليحاكي وينسجم مع ما قاله مشايخ «هيئة العلماء المسلمين» الذين إلتقاهم، فتحركوا بعد اللقاء فـي الشارع، لضرب الدولة وهيبتها وقواها الأمنية بعد استهداف الجيش والأمن العام، وهو ما أكّده الوزير المشنوق، الذي أشار الى أن ما جرى يخدم «داعش» والنصرة، فهل هذا هو هدف «شريط روميه» وهو فـيلم ريفـي طويل؟
Leave a Reply