فاطمة الزين هاشم
(هذه ليلتي) إحدى روائع المرحوم جورج جرداق التي يقول فـي مطلعها:
هذه ليلتي وحلم حياتي بين ماضٍ من الزمان وآتِ
نحن شعب نعيش فـي الماضي ونتلذّذ بآلامه ونكباته، إنّ أحد أكثر الصراعات التي نواجهها دائماً حين يموت من نحبّه أو يهجرنا، ينفطر قلبنا لأيّ حادث من وداع أو فراق، وهو شعور يقضي بأنّنا خارج نطاق السيطرة، ونفتقد قدرة التحكّم إزاء مغادرة الناس لحياتنا، بل وفوق ذلك نستذكر قوّة مثل هذه الضربة الأليمة حتّى ولو مرّت عليها سنوات وسنوات.
من السهل أن نغرق فـي تجاربنا السلبيّة وما تخلّفه من انعكاسات أليمة تنخر بعظامنا، لكنّ الصعب هو الخروج من حال التبلّد والتسمّر فـي مكاننا، كما يقول الشاعر:
دخول المرء فـي الشبكات سهلٌ ولكنّ التفكّرَ فـي الخروجِ
أحياناً تنتابنا أفكار على هذه الشاكلة لأنّ تقبّلنا لمستقبل لا يقاسمنا فـيه الحبيب المفقود سيجعل من أيّ واقع جديد من الصعب تقبّله، وأنّ مجرّد التفكير فـي هكذا أمر يورثنا شعوراً بالفراغ والوحدة، فنرفض أحياناً الانطلاق لوحدنا إلى مكان ما لا نلعق به جراحنا، مفضّلين الانفراد بأنفسنا عاطفـيّاً بدفع الآخرين عن يوميّاتنا ظنّاً منّا أنّ الوحدة قد تهوّن الألم،
لكنّ هذه النتيجة نادراً ما تتحقّق.
إحدى صديقاتي فقدت زوجها وهي فـي ريعان الصبا، أنهكتها الصدمة حتّى كادت تقضي عليها، فانزوت لوحدتها وابتعدت عن الناس وحتّى الأقارب، أصيبت بالاكتئاب الحادّ ورفضت الذهاب إلى طبيب نفساني لمعالجتها رغم عملها فـي أحد المراكز الطبية، زرتها فـي ليلة مقمرة طلبت منها المشي سويّة لبعض الوقت فـي الهواء الطلق، سرنا معاً وحاولت التخفـيف عنها، كان ذلك بعد مرور أشهر على وفاة زوجها، سألتها فـيما لو كانت الصورة معكوسة وأنت من مات، هل سيحزن زوجك إلى هذا الحدّ وهل سيبقى وحيداً مدى حياته حافظاً لعهدك؟ قالت لا أعلم، قلت مداعبةً: اسمعي هذه (الطرفة):
توفّيت إحدى الزوجات وفـي الطريق إلى دفنها لاحظت سيّدة على زوج المرحومة أنّه يقتنص النظرات إلى السيّدات المرافقات للجنازة، فأخذته جانباً وأنّبته أن اخجل من نفسك فقبر زوجتك لم يجف بعد حتّى تفكّر بانتقاء زوجة أخرى، وفـي الصباح عادت السيّدة لقراءة الفاتحة للفقيدة فوجدت الزوج يحمل (مهواة) محاولاً تجفـيف القبر!! ياله من وفاء!.
يمكننا أن نحب لأنّ الحياة تستمر، وبدلاً من أن نبقى نعتاش على الماضي فلننظر إلى المستقبل فهناك صباح جديد، علينا أن نتجمّل بالصبر وأن نعطي لأنفسنا فرصة تقبّل ما جرى وندعم قوّتنا بالتحمّل وأن نظلّ نركّز على معنى وهدف نحيا لأجله، ستشرق الشمس ويسطع نورها على وجوهنا وتهدأ أرواحنا ثانيةً ونجتاز المحنة فنحن مضطرّون على ذلك، لا أقول يجب أن نحيا بقلب من حديد، فمثل هذه الأمور تحدث وعلينا تداركها بالخروج من قسوتها لنكون أكثر صلابةً وحكمة أمامها، إنّنا لن نكون راضين بحقيقة فقدان من نحب، لكنّنا فـي المقابل لا نملك القدرة على اختيار من يذهب أو من يبقى سواءً رضينا أم لم نرضَ، فإنّ معظم ما فـي حياتنا مهما كانت درجة استمتاعنا به لن يدوم إلى الأبد.
إنّ تغيير السكن والأمكنة التي اعتدنا ارتيادها يبقى أفضل الحلول لنسيان الذكريات الأليمة، والبدء فـي حياة جديدة وبأماكن جديدة قد يكون علاجاً ناجعاً ومفـيداً يدل إعادة شريط الماضي والبكاء على الأطلال.
Leave a Reply