نبيل هيثم – «صدى الوطن»
يشكل تدشين قناة السويس الجديدة محطة مفصلية ليس على المستوى المصري الداخلي البحت، وانما ايضاً على مستوى العلاقات الاقتصادية والجيوسياسية فـي العالم بأسره.
وليس الحديث عن اهمية قناة السويس الجديدة امراً مبالغاً فـيه، فالوقائع التاريخية ثابتة، وقد اظهرت طوال القرنين الماضيين ان هذه القناة، والى جانب دورها فـي تعزيز الاقتصاد والامن القومي فـي مصر، ظلت محور الحركة الاقتصادية والسياسية فـي العالم، ومن اجلها احتلت بريطانيا مصر فـي اواخر القرن التاسع عشر، وبسببها شن البريطانيون والفرنسيون والاسرائيليون عدوانهم الثلاثي فـي العام 1956، كما انها كانت هدفاً اساسياً للكيان الصهيوني فـي العام 1967. ولعل اكثر من عبّر بوضوح عن اهمية قناة السويس من الناحية الجيوسياسية هو المؤرخ الاميركي المعاصر هالفورد هوسكينز حين قال ان «أي عمل انساني مادي لم يؤثر على علاقات الأمم بالقدر الذي فعله شق قناة السويس، إذ من الصعب أن نتصوَّر إنجازًا آخر فـي حدود القدرة البشرية يمكن أن يغيّر أوضاع الطبيعة أكثر منها، فبعملية جراحية جغرافـية بسيطة، تمَّ اختزال قارة بأكملها هي إفريقيا»، ليخلص الى القول ان «القناة أعادت وضع مصر، والمشرق العربي، فـي قلب الدنيا وجعلتها بؤرة الخريطة العالمية».
وكما ادى افتتاح قناة السويس فـي 17 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1869 الى ازدياد أهمية مصر الجيواستراتيجية بسبب دورها فـي حركة التجارة الدولية -فضلاً عن التغييرات العمرانية والسكانية الجديدة والمتمثلة فـي نمو ثلاث مدن جديدة هي السويس والإسماعيلية وبورسعيد- فإن مشروع «قناة السويس الجديدة»، وكما يؤكد الخبراء، ستكون له آثار أكبر، خصوصاً فـي ظل ازدهار حركة النقل البحري، والتقدم الكبير فى تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وتزايد اندماج اقتصادات الدول فـي الاقتصاد العالمي.
وعلى المستوى الجيو استراتيجي، فقد اسهم افتتاح قناة السويس فـي النصف الثاني من القرن التاسع عشر فـي تغيير مفاهيم الحرب والسلام، وايضاً الى ازدياد التنافس الدولي على مصر.
ومعروف ان قناة السويس، وقبل التوسيع، تعد من اهم الممرات المائية فـي العالم، ويكاد لا ينافسها اي ممر آخر غير قناة بنما التي افتتحت فـي 1914. وما يزيد من الاهمية الاستراتيجية لقناة السويس هو السيادة المصرية الكاملة عليها، و احترام مصر منذ تأميم شركة القناة فـي العام 1956 لبنود اتفاقية القسطنطينية فـي العام 1888، التي تنظم حرية الملاحة فـيها، وذلك خلافاً لقناة بنما التى ظلت خاضعة للإدارة الأميركية حتى 1999، ولذلك، فإن الدور المصري المنفرد فـي حماية قناة السويس وتأمين حركة التجارة البحرية التي تمر بها يعزز المكانة الدولية لمصر.
وفـي هذا الاطار، لا يمكن تجاهل الظروف الدولية والاقليمية التي ارتبطت بمشروع قناة السويس الجديدة، والتي حرصت القيادة المصرية على أن يكون تنفـيذها وتمويلها مصرياً بحتا.
وكان واضحاً منذ البداية ان القيادة المصرية ارادت ان تنجز هذا المشروع الاستراتيجي لاستعادة المكانة الاقليمية والدولية للبلاد، والتي تراجعت منذ «ثورة 25 يناير».
ولا بد من التذكير هنا إلى ان تدشين المرحلة التنفـيذية للقناة الجديدة اتت فـي وقت كانت تشهد فـيه العلاقات بين مصر والغرب توتراً شديداً، خصوصاً بعدما اتخذ الجانبان الاوروبي والاميركي موقفاً متحفظاً، لا بل عدائياً، من النظام الجديد الذي صعد على انقاض نظام «الاخوان المسلمين» عقب «ثورة 30 يونيو».
ولذلك، فإن سمة اساسية لمشروع القناة الجديد هو تأكيد مصر استقلالية قرارها الوطني، وهو ما تواكب مع اعادة النظر فـي العلاقات الخارجية، عبر الانتقال من الحصرية فـي التعامل مع الولايات المتحدة، الى تنويع العلاقات الدولية، من خلال الانفتاح على روسيا والصين.
وعلاوة على ذلك، فإن تدشين مشروع على هذا القدر من الاهمية الاستراتيجية يؤذن الى ان مصر تكتسب ثقة كبرى فـي امكانية تحصين نفسها من مخططات الفوضى والتقسيم التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الثلاث الماضية.
والاهم من ذلك، ان مشروع قناة السويس الجديدة قد احبط طموحات اسرائيل تجاه مصر عامة، والقناة خاصة. وبالتالي فإن اسرائيل لن تكون سعيدة على الاطلاق.
ولا بد من التذكير، فـي هذا الاطار، الى ان فـي قلب المخططات الاستراتيجية الاسرائيلية فكرة إقامة خمسة مشروعات للربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، وهي تتنوع ما بين قناة بحرية وإقامة طرق برية وخطوط سكك حديدية ومد أنابيب لنقل النفط من الخليج إلى أوروبا.
ومن بين هذه المشروعات، تخطط اسرائيل لاقامة ممر مواز لقناة السويس عبر إنشاء جسر بري يربط بين أيلات وأسدود (ويتضمن المشروع مد خط للسكك الحديد يهدف لنقل البضائع الآسيوية خاصة من الصين عبر البحر الأحمر إلى البحر المتوسط ومنه إلى أوروبا).
وكانت إسرائيل تخطط لتنفـيذ هذا المشروع فـي 5 سنوات لينتهي فـي العام 2017. ولكن من الواضح ان قناة السويس الجديدة ستحبط هذا التوجه، خصوصاً ان توسيع الممر البحري المصري سيؤدي إلى تنشيط حركة التجارة العالمية ومرور سفن الحاويات العملاقة عبر اختصار زمن الرحلة البحرية من 18 ساعة إلى 11 ساعة، معززة بذلك الاهمية الاقتصادية لقناة السويس، التي تكتسب قدرة تنافسية هائلة بداية، من خلال الموقع الجغرافـي، الذي لا مثيل له على مستوى العالم، او لجهة الخدمات اللوجستية الضخمة التي يلحظها المشروع المصري الجديد. ولعل هذا الامر سيصعّب مهمة إسرائيل فـي إقامة مشروعها البديل.
ومن المؤكد أن أمن مصر الاستراتيجي يرتبط بأمن قناة السويس بشكل عام، والذي يرتبط بدوره بأمن البحر الأحمر والدول الواقعة على ضفتيه، ونعني هنا، بما فـي ذلك السعودية واليمن، وكذلك الدول الأفريقية المتاخمة لباب المندب (السودان وأريتريا وجيبوتي والصومال). وبالتالي فإن القناة الجديدة ستمنح مصر بعدا استراتيجيا اكبر لأمنها، من جهة الشرق، ما يجعلها لاعباً اساسياً، على المستويين العسكري والسياسي، فـي الازمات المرتبطة بالامن القومي الخليجي. كذلك فإن أمن مصر والقناة سيزدادان اهمية فـي ما يتعلق بارتباطهما بأمن البحر الأبيض المتوسط، حتى مضيق جبل طارق، وهذا يعني ارتباط القناة بحركة السياسة والاقتصاد والتجارة فـي العالم، وحركة الأساطيل التجارية فـي الاستيراد والتصدي. وبذلك تتشكَّل أهمية قناة السويس الجيواستراتيجية كمعبر أقصر، وأسرع، وأقل تكلفة، ما بين شرق الكرة الأرضية وغربها، ما بين مصادر الطاقة الضرورية للغرب ونقلها الآمن، وما بين أسواق الاستهلاك الضرورية لتصدير الصناعات الغربية إلى الشرق.
وعلاوة على كل ذلك، فإنّ قناة السويس تمثل عنصراً أساسيا فـي العلاقات المصرية – الأميركية على المستوى الاستراتيجي، فعبر قناة السويس وخط الأنابيب من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط تتدفق الملايين من براميل النفط إلى السوق الدولية، وعبر هذا الممر المائي تعبر السفن الحربية الاميركية من وإلى المحيط الهندي والخليج، وكل هذا يجعل الولايات المتحدة تقلق من كل محاولة قد تلجأ اليها مصر لتعزيز مكانتها الاسترايتيجية من بوابة الممرات المائية الدولية. وفـي هذا الإطار، يمكن وضع زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى أثيوبيا مؤخراً، وإعلانه عن حزمة من المساعدات لهذه الدولة الافريقية التي تسعى لمنافسة مصر، وحتى المس بأمنها القومي من خلال «سد النهضة» الذي تقيمه على مجرى نهر النيل.
ويفاقم من القلق الاميركي هذا، الوضع الجديد لإيران بعد الاتفاق النووي، والذي يمهّد لبروز الجمهورية الاسلامية كلاعب اساسي فـي منطق الشرق الاوسط. ولعل اكثر سيناريو مثير للرعب بالنسبة الى الاميركيين فـي ظل «السلام النووي» هو حدوث انعطافة دراماتيكية فـي العلاقات المصرية – الايرانية، ما يعني من الناحية العملية سيطرة كل من ايران ومصر على كافة الممرات المائية فـي منطقة الشرق الاوسط (هرمز، قناة السويس، والى حد ما باب المندب).
القناة: بطاقة تعريف
قناة السويس هي ممر مائي اصطناعي ازدواجي المرور فـي مصر، يبلغ طولها 193 كم وتصل ما بين البحرين الأبيض والأحمر.
تنقسم قناة السويس طولياً إلى قسمين شمال وجنوب البحيرات المرّة، وعرضياً إلى ممرين يسمحان بعبور السفن باتجاهين فـي نفس الوقت بين كل من أوروبا وآسيا، وهي تعتبر أسرع ممر بحري بين القارتين وتوفر نحو 15 يوماً فـي المتوسط من وقت الرحلة عبر طريق رأس الرجاء الصالح.
وبدأت فكرة إنشاء القناة مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، اذ فكر نابليون بونابرت فـي شق القناة إلا أن الفكرة باءت بالفشل، وفـي عام 1854 أستطاع فرديناند ديلسبس فـي إقناع الخديوي سعيد وحصل على موافقة الباب العالي، فقام الخديوي سعيد بموجبه بمنح الشركة الفرنسية امتيازاً لمدة 99 عاماً.
استغرق بناء القناة 10 سنوات (1859 – 1869)، وساهم فـي عملية الحفر ما يقرب من مليون عامل مصري، ومات خلالها أكثر من 120 ألف منهم أثناء عملية الحفر على أثر الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة، وتم افتتاح القناة عام 1869 فـي حفل مهيب وبميزانية ضخمة. وفـي عام 1905 حاولت الشركة تمديد حق الامتياز 50 عاماً إضافـية إلا ان المحاولة فشلت لاحقاً.
وبعد الجلاء البريطاني عن مصر، وتحديداً فـي السادس والعشرين من تموز العام 1956 قام الرئيس عبد الناصر بتأميم قناة السويس، وذلك لتمويل السد العالي، ما تسبب فـي إعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على مصر ضمن العدوان الثلاثي والذي انتهى بأنسحابهم.
وتسببت حرب 1967 فـي إغلاق قناة السويس لأكثر من 8 سنوات، حتى قام الرئيس انور السادات بإعادة افتتاحها فـي حزيران العام 1975.
وشهدت القناة بعد ذلك محاولات لتوسيعها بدأت عام 1980 وكذلك فكرة تحويلها إلى منطقة خدمات لوجستية، وفـي 5 آب 2014 تم تدشين مشروع حفر قناة موازية للممر الملاحي الحالي بطول 72 كيلومتراً، لتمكين السفن والناقلات من عبور القناة فـي كلا الاتجاهين فـي ذات الوقت، وتلافـي المشكلات الحالية من توقف قافلة الشمال لمدة تزيد عن 11 ساعة فـي منطقة البحيرات المرة، وتقليل زمن رحلة عبور القناة بشكل عام، مما يسهم فـي زيادة الإيرادات الحالية للقناة.
وتعد قناة السويس أحد أهم المجاري البحرية فـي العالم، حيث بلغت إيراداتها فـي العام المالي (2014-2015) نحو 39 مليار جنيه مصري. ويمر عبر القناة ما بين 8 و12 بالمئة من حجم التجارة العالمية.
قناة السويس الجديدة
بعد نحو عام من أعمال الحفر والتجريف والإكساء، أصبحت قناة السويس الجديدة فـي مصر جاهزة لاستقبال السفن التجارية.
وانشئت القناة الجديدة كفرع مواز يخرج من القناة الرئيسية عند الكيلومتر رقم 60 ويصب فـيها مجددا فـي الكيلومتر رقم 95، لتتشكل بذلك جزيرة بين القناتين يخطط أن تضم أيضا مجموعة من المشاريع العمرانية والاستثمارية الجديدة التي تضيف فرص عمل جديدة للشباب المصري.
وتمتد القناة الجديدة على طول 35 كيلومترا فـي موازاة القناة الأصلية.
وتتركز الأهداف الأساسية لقناة السويس الجديدة على زيادة الدخل القومي المصري من العملة الصعبة، وتحقيق أكبر نسبة من العبور المزدوج للسفن على طول المجرى الملاحي، وتقليل زمن الانتظار وبالتالي تلبية الزيادة المتوقعة فـي حجم التبادل التجاري.
وتتوقع الحكومة المصرية زيادة عائدات قناة السويس عام 2023 لتصل إلى 13.226 مليار دولار مقارنة بالعائد الحالي 5.3 مليار دولار.
وستكون القدرة الاستيعابية للقناة الجديدة 97 سفـينة قياسية فـي اليوم عام 2023 بدلا من 49 سفـينة يوميا عام 2014. بالإضافة إلى أنها ستمكن السفن من العبور المباشر دون توقف لـ45 سفـينة فـي كلا الاتجاهين.
بلغت مدة تنفـيذ مشروع القناة الجديدة 12 شهرا، شملت أعمال الحفر على الجاف والتكسية والتجريف وتوسيع وتعميق التفريعات الحالية لعمق 24 متر ليسمح بعبور سفن حتى غاطس 66 قدماً.
وتأمل الحكومة المصرية من خلال هذا المشروع إلى تعظيم القدرات التنافسية للقناة وتمييزها عن القنوات المماثلة ورفع درجة التصنيف العالمي للمجرى الملاحي نتيجة زيادة معدلات الأمان الملاحي أثناء مرور السفن.
Leave a Reply