كمال ذبيان – «صدى الوطن»
كان الخلاف على الجيش قبل الحرب الأهلية وعشية نشوبها فـي لبنان، حول عقيدته القتالية، ودوره فـي مواجهة العدو الإسرائيلي والتصدي له، لاسيما بعد نكسة حزيران فـي العام 1967، التي انهزمت فـيها الجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي واحتلال الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان، وصعود المقاومة الفلسطينية وتموضعها فـي جنوب لبنان، وفـي منطقة العرقوب أو ما سمي «فتح لاند»، إذ بدأ لبنان يتعرض لإعتداءات إسرائيلية عليه مع كل عملية للمقاومة، فرفعت القوى الوطنية شعار العقيدة القتالية للجيش، وضرورة إنخراطه مع المقاومة الفلسطينية فـي الدفاع عن السيادة اللبنانية، حيث جوبه هذا الطرح من قبل أطراف فـي السلطة وأحزاب يمينية فـي أغلبيتها مسيحية، تحييد لبنان، وأن قوته بضعفه، وهو خارج القتال مع إسرائيل، وأدّى هذا الخلاف الى اقتتال داخلي، لم يتوقف إلا بعد إتفاق الطائف، الذي وضع عقيدة للجيش تحدد العدو من الصديق وبدأ العمل بها مع تسلم العماد إميل لحود قيادته وتمّ إرساء معادلة الجيش والشعب والمقاومة، والتي نتج عنها تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000، والصمود بوجه العدوان الإسرائيلي صيف تموز 2006، وإلحاق هزيمة بالجيش الذي لا يُقهر.
لم يعد الخلاف على عقيدة الجيش الذي يحاول البعض، أن يحصر ما يسمى «قرار الحرب والسلم» به فقط، لإلغاء وجود المقاومة ونزع سلاحها، كما توصي أميركا وإسرائيل، وبات الصراع على قيادته، التي مَن يصل إليها تقوده الى رئاسة الجمهورية، وفق أدائه ودوره فـي هذا الموقع، والذي منه انتخب أول قائد للجيش رئيساً للجمهورية اللواء فؤاد شهاب نتيجة تسوية دولية-إقليمية رعتها أميركا التي أوفدت مبعوثها ريتشارد مورفـي ومصر برئاسة جمال عبدالناصر، وكان أول وصول عسكري الى السلطة من دون انقلاب، على ما كانت تشهده دول عربية أخرى من انقلابات عسكرية، ودشنت فـي سوريا بقيادة اللواء حسني الزعيم عام 1949 لتكر سبحة الإنقلابات وتتوقف مع الرئيس حافظ الأسد فـي العام 1970 بعد قيامه بالحركة التصحيحية داخل حزب البعث والسلطة التي كان يحكم باسمها، ثم قام «الضباط الأحرار» فـي مصر بقيادة الضابطين محمد نجيب وجمال عبدالناصر واستولوا على السلطة فـي 23 تموز 1952، لتتوالى الإنقلابات فـي العراق والسودان وليبيا والجزائر واليمن.
وفـي لبنان حصل إنقلاب قام به الحزب السوري القومي الإجتماعي عام 1962 وسانده فـيه ضباط قوميون أبرزهم النقيبان فؤاد عوض وشوقي خيرالله والملازم على الحاج حسن، لكن المحاولة الإنقلابية فشلت وزج بالقوميين وأنصارهم فـي السجن لنحو عشر سنوات.
وفتح وصول اللواء شهاب وانقلاب القوميين، الباب لتطلع العسكريين نحو السلطة، ومَن يتولى قيادة الجيش وهي منصب للموارنة قد توصله الى رئاسة الجمهورية، وهو ما طمح إليه قائد الجيش إميل البستاني فـي العام 1969، وقبله العماد عادل شهاب فـي العام 1964، وكان قائداً للجيش ورشحه قريبه الرئيس اللواء فؤاد شهاب، ليبتعد المنصب عنه لصالح الرئيس شارل حلو، كما كان طموح ضباط موارنة لم يصلوا الى قيادة الجيش وشغلوا منصب مدير المخابرات فـيه ومن هؤلاء غابي لحود وجوني عبده وعامر شهاب، ويُطرح من بين الأسماء المتداولة فـي هذه المرحلة لرئاسة الجمهورية كمرشح تسوية أو توافقي اسم مدير المخابرات السابق العميد جورج خوري الذي كان اسمه مطروحاً لقيادة الجيش، فلم يصل إليها وعُيّن سفـيراً للبنان لدى الفاتيكان.
والعماد ميشال عون أشهر المرشحين لرئاسة الجمهورية التي اقترب منها فـي العام 1988، وعطّل وصوله إليها إتفاق الرئيس السوري حافظ الأسد مع الموفد الأميركي ريتشارد مورفـي على اسم النائب مخايل الضاهر، الذي رُفض مسيحياً، ودخلت البلاد فـي الفوضى التي كان هدد بها مورفـي، وغرق لبنان فـي حرب أهلية مدمرة لمدة عامين ولم تتوقف إلا بعد إتفاق الطائف وإنهاء تمرد العماد عون فـي قصر بعبدا ورفضه التسليم بالشرعية الجديدة برئاسة إلياس الهراوي الذي انتخب بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض.
فمنذ ربع قرن والعماد عون يتطلع الى رئاسة الجمهورية التي وصل إليها قائدان للجيش، الأول هو العماد إميل لحود فـي العام 1998، وكان عون منفـياً فـي باريس ليعود فـي العام 2005، ويهيّء نفسه لرئاسة الجمهورية، بعد أن خرج الجيش السوري من لبنان، وتراجع النفوذ السوري فـيه، وأن الوقت حان ليقطف ما جناه من خلال نضال دام 15 عاماً، ساهم فـيه «بتحرير لبنان من الإحتلال السوري» كما يقول، ويجب أن يكافأ على هذا الإنجاز لصالح السيادة والإستقلال، إلا أن ما كان يحلم به عون تبدّد، لأن حلفاءه فـي 14 آذار أنكروا عليه هذا الحق فخرج منهم بعد أن خاض إنتخابات نيابية فـي لوائح منفردة، وسجل إنتصاراً كاسحاً بالحصول على 70 % من أصوات المسيحيين فـي العام 2005، لكنه لم يحصد وزراء فـي الحكومة، وتمّ إقصاؤه، فرد على ذلك بإعلان ورقة تفاهم مع «حزب الله»، فحمى المقاومة التي اعترفت له بوفائه، لكن أحداث 7 أيار 2008 التي قلبت المعادلة الداخلية، لم توصله الى رئاسة الجمهورية التي كانت شاغرة مع انتهاء ولاية الرئيس لحود، فكانت تسوية الدوحة أن يكون قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وهكذا خسر عون الرئاسة للمرة الثالثة، التي وصل إليها قائدان للجيش بينما وهو لم يصل، فقرر أن لا يتنازل او يتساهل فـي هذه الدورة ، مع بروز اسم قائد الجيش العماد جان قهوجي كأحد المرشحين البارزين، فارتاب عون منه، بعد أن تبيّن له أن وصوله الى رئاسة الجمهورية ليس سهلاً، فقرر قطع الطريق على العماد قهوجي بإحالته الى التقاعد بعد أن بلغ السن القانونية، إلا أن مَن يراهن على إبقاء اسم قهوجي فـي التداول لمنع وصول عون قرر التمديد له، فشنّ الأخير هجوماً على التمديد لقائد الجيش واعتبره غير شرعي، وألحّ على التعيين فـي المراكز العسكرية والأمنية، كما فـي المؤسسات الأخرى، إضافة الى أنه طعن فـي التمديد لمجلس النواب أمام المجلس الدستوري، ولم يؤخذ به، وهو لا يعترف بشرعية التمديد ويعتبره باطلاً، مما دفع بالرئيس برّي للرد عليه، بأنه كيف يطلب من مجلس غير شرعي أن ينتخبه، فكان جواب عون أنه يدعو لإجراء إنتخابات نيابية.
فكل مَن يصل الى قيادة الجيش وحتى حاكمية مصرف لبنان، يضع نصب عينيه رئاسة الجمهورية، فلها ترشح إلياس سركيس وكان حاكماً لمصرف لبنان ولم يفز فـي العام 1970 وانتخب منافسه الرئيس سليمان فرنجية، ليعود فـينجح فـي العام 1976، كما ترشح لها حكام اخرون لمصرف لبنان منهم الدكتور إدمون نعيم وميشال الخوري ويتم فـي هذه الفترة طرح الإسم الحالي لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ولتفادي هذه الظاهرة، جرى تعديل المادة 49 من الدستور، بوضع فقرة تنص على أن يستقيل موظفو الفئة الأولى من الوظيفة قبل عامين من إنتخابات رئاسة الجمهورية، إلا أنه لم يُعمل بهذه الفقرة من المادة، فانتخب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية مع تعديل له لمرة واحدة، وهو الأمر الذي لم يجرِ مع قائد الجيش ميشال سليمان وجرى الطعن بإنتخابه من بعض النواب ولم يأخذ به المجلس الدستوري.
فالمؤسسة العسكرية عرفت فـي تاريخها منذ نشوئها قبل سبعين عاماً، خضات داخلية، وانشقاقات كان أبرزها ما حصل فـي أثناء الحرب الأهلية، التي عرفت ألوية مناطقية وأخرى طائفـية، فظهر «جيش لبنان العربي» بقيادة الملازم أحمد الخطيب، ودبّر اللواء عزيز الأحدب إنقلاباً داخل الجيش لم يدم طويلاً، والتحق الرائد سعد حداد بقوات الإحتلال الإسرائيلي وخلفه العميد أنطوان لحد، كما حصلت تجمعات لأفواج طائفـية، والتحاق ألوية بأحزاب محلية أو الخضوع لأمرتها.
هذه المؤسسة التي أعيد توحيدها ودمج ألويتها، مرّت بمعموديات دم فـي مواجهة العدو الإسرائيلي والجماعات الإرهابية التكفـيرية، بالرغم من ضآلة التسليح والقدرات العسكرية، إلا أنها أثبتت أنها خارج التجاذب السياسي، وتمكّنت من أن تخرج من عواصف سياسية وأزمات داخلية تسبّب بها سياسيون بالحفاظ على وحدتها، وهو ما جعل أنظار العالم تتطلع نحو تسليح الجيش وتقديم المساعدات له، ليحافظ على الأمن والإستقرار بعد أن خاض معارك فـي جرود الضنية مطلع عام 2000، ثم فـي مخيم نهر البارد 2007 وفـي عبرا بشرق صيدا عام 2012، وخرج من هذه المعارك وقد انتصر على الجماعات الإرهابية وقضى عليها ومانعاً من إقامة إمارات إسلامية، كان آخرها قبل عام فـي عرسال وجرودها، حيث خاض الجيش أشرس المعارك وتمكّن خلالها من تسجيل انتصارات ميدانية، حمت لبنان من جهة سلسلته الشرقية، وساعدته المقاومة التي حررت أجزاء واسعة من جرود القلمون المتصلة بجرود عرسال، وهو الذي مكنه من صد هجمات المسلحين باتجاه بعض القرى وتحديداً فـي رأس بعلبك والقاع والفاكهة.
هذه المؤسسة يحاول سياسيون أن يخربوها إذا لم تخدم توجهاتهم، مثلما فعله نواب فـي «تيار المستقبل» كالنائب خالد الضاهر وزميليه النائبين معين المرعبي ومحمد كبارة، الذين هاجموا الجيش لأنه كان يتحرك ضد الجماعات الإرهابية فـي طرابلس ومناطق شمالية، التي تمكّنت من أن تفرض سيطرتها على عاصمة الشمال، وهدد وجودها المدينة ونفوذ «تيار المستقبل» فـيها، مما اضطر رئيسه سعد الحريري إلى أن يعلن دعمه له، ووضع خطة أمنية من قبل وزير الداخلية نهاد المشنوق حررت طرابلس من المجموعات المسلحة التي كانت تموّل من قبل أطراف سياسية فـي المدينة ومنهم مَن هو محسوب على «تيار المستقبل» كالضابط السابق عميد حمود الذي أسّس «أفواج طرابلس» لـ«تيار المستقبل» والوزير أشرف ريفـي عندما كان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي.
فالجيش فـي عيده السبعين، لا يقدم نفسه على أنه هو الحل كما أراد أن يستخدمه العماد عون فـي نهاية العام 1989، ولا هو أداة للنظام السياسي يحركه ضد شعبه كما حاولت قوى سياسية وحزبية ، وانخرط فـي التصدي للعدو الإسرائيلي والتنسيق مع المقاومة، وان قادته على مر تاريخه كانو امرشحين دائمين لرئاسة الجمهورية، وهو ما سبب أزمات له، ومنها الأزمة التي بدأت بين العمادين عون وقهوجي، حيث وُضع «التيار الوطني الحر» فـي مواجهة قائد الجيش الذي يستغرب هذه الحملة عليه، وهو لم يخطئ فـي أدائه، وأن عون يريد إخراجه من قيادة الجيش ليعبر إليها العميد شامل روكز، ويخرج منها منافس له على رئاسة الجمهورية.
Leave a Reply