حسن خليفة – «صدى الوطن»
تواجه اللغة العربية الفصحى فـي الولايات المتحدة الاميركية، خصوصاً لدى الأجيال الجديدة، خطر الانقراض الحقيقي، وبسرعة ربَّما تكون أكبر من باقي اللهجات العربية المحكية، مما يستدعي القيام بإجراءات سريعة لمعالجة الموقف لأنَّ استفحال هذه الظاهرة من شأنه أنْ يشكل خطراً على مصير الجاليات العربية ومستقبلها برمته.
فهناك قلة قليلة فقط من الشباب العرب الأميركيين الذين مازالوا يتقنون اللغة العربية، قراءةً وكتابة، بينما تعرض الأكثرية عن تعلم العربية الفصحى وممارستها لأسباب عديدة فـي مقدمتها اهتمام هؤلاء الشباب بالعمل على الإندماج والانصهار فـي المجتمع الأميركي والنفاد إلى نسيجه الداخلي.
طفل يتعلم اللغة العربية. (صدى الوطن) |
وفـي هذا الخصوص، ذكرت مديرة «الأكاديمية الاسلامية الاميركية للشباب» (مايا) المعلمة هالة هزيمة -التي تدرس بمدرسة تعلم اللغة العربية والدين الإسلامي ابتداء من صف الحضانة وحتى الصف الثامن- أن الجالية العربية فـي مدينة ديربورن لا تُشبه أي مجتمع عربي أميركي آخر من حيث ميل أعضائه إلى التماسك معاً، ولكن فـي حين يثمِّن العرب الأميركيون ثقافتهم عالياً إلا أنه يمكن اعتبار الكثيرين منهم بكونهم قد أخفقوا فـي الحفاظ على أهم مداميك هذه الثقافة، ألا وهو: اللغة العربية.
وأضافت: إن بعض الآباء قد اختاروا إبعاد أطفالهم عن تعلم اللغة العربية بغية تحقيق الإندماج الكلي فـي البيئة الأميركية، أما البعض الاخَر فلم يكن لديه الوقت الكافـي للتعلم كما أن بعض الأولاد لم يتعزز عندهم الاهتمام الكافـي والمحفزات المطلوبة لتعلم لغة الضاد، لغة الأجداد.
وأوضحت هزيمة التي تعمل فـي «مايا» منذ ١٣ عاماً أنَّ معظم الطلاب المسجلين فـي المدرسة هم من الجيل الثاني من العرب الأميركيين الذين قد يتكلمون العربية محادثةً، ولكنهم لا يحسنون قراءَتها وكتابتها بشكل جيد.
وقالت: «لقد وُجد البعض هنا منذ مرحلة ما قبل المدرسة وكانوا بالكاد يستطيعون القراءة والكتابة باللغة العربية لأنها لم تكن لها أولوية بالنسبة لهم، فمواضيع اللغة الإنكليزية هي أساساً ما تهم الوالدين، لأن هذا هو ما يحتاج التلاميذ إليه عندما ينتقلون إلى المدارس الثانوية والكليات والجامعات».
سبب آخر يجعل بعض الطلاب غير راغبين بالتحدث باللغة العربية، وهو أن العديد من الأطفال الذين لا يتحدثون العربية بطلاقة، قد يشعرون بالخجل وبأن الآخرين قد يتحدثون عنهم بتهكم، وفقا لهزيمة.
خديجة درة، المقيمة فـي ديربورن وهي أم مطلَّقة ولديها أربعة أبناء، قالت ان ابنها الأكبر، علي، يتحدث العربية بطلاقة، ويقرأ ويكتب بها، لكن أطفالها الثلاثة الآخرين ليسوا كذلك، مع أن الأم وابنها علي يدركان أن اللغة هي ركن أساسي من أركان الهوية والانتماء والثقافة.
وحول الأسباب التي دفعت علي لتعلم العربية، أجابت الأم بالقول: «قال إنه سيعود يوماً ما إلى وطنه ولذا فمن المهم أن يعرف كيف يتحدث ويقرأ ويكتب بالعربية لكي يستطيع أن يتواصل مع عائلته ويتفاعل مع محيطه فـي الوطن الأم».
وأضافت «قراءة القرآن مهمة بالنسبة لعلي، لذلك سجلته فـي مدرسة تعلم العربية والدين الإسلامي منذ كان فـي الصف الثاني، لكن المشكلة هي أن المدرسة ساعدته فقط على معرفة الأساسيات، مثل الحروف الأبجدية، أما الحديث والتخاطب باللغة العربية فقد ساعدته بيئتنا المنزلية أكثر فـي الغالب على إتقان اللغة العربية».
ولأنه ليس للأسرة من معيل سوى الأم وحدها، التي تضطر للعمل بدوام كامل ولساعات طويلة فقد كان من الصعب عليها إكمال المهمة وتعليم أبنائها الثلاثة الآخرين مهارات الحديث والتواصل باللغة العربية.
وتزداد المشكلة حدة لدى العائلات المختلطة حين يكون الأبوان من ثقافتين مختلفتين، ولا يتكلمان اللغة ذاتها، إذ تجد هذه العائلات صعوبة أكبر فـي توجيه أبنائها نحو تعلم العربية. وفـي هذا الخصوص، يقول محمد حفني، المصري الأصل المتزوج من أميركية والمقيم فـي مدينة «سانت كلير شورز»: كون زوجتي لا تعرف العربية فمن الصعب علينا التحدث بها فـي المنزل.
ويؤكد حفني أنه حاول تعليم ابنتيه التوأمين البالغتين ١٨ عاماً من العمر اللغة العربية، لكن اعترضته تحديات جسيمة للغاية.
ويضيف أنه قام بإلحاق ابنتيه بمدرسة تعلم العربية، لكن هذا الإجراء لم يساعدهما كثيرا بسبب كون معظم الأطفال فـي الصفوف كانوا يجيدون اللغة العربية مما جعل ابنتيه تشعران دائماً بأنهما متخلفتان عن زملاء الصف فلم تستمتعا بتجربة التعلم.
مع أن ابنتي حفني أبديتا استعدادا للتعلم وكانتا تستمتعان بمشاهدة الأفلام المصرية معاً وكان هو -الوالد- يتولى عملية الترجمة لهما، لكن الأمور لم تجر كما يشتهي الوالد وابنتاه. وقد أعرب حفني عن ندمه لعدم حث أطفاله ودفعهم أكثر لتعلم اللغة العربية، لأن مسألة التراث والثقافة الأم مهمة بالنسبة له.
إحدى بنات حفني، وتدعى رحمة، أعربت بدورها عن أنها كانت تتمنى لو تتكلم اللغة العربية. وقالت: «إنها لغتي وتراثي وثقافتي. لقد كان من الصعب عليَّ تعلم اللغة وأنا نادمة لأَنِّي لم أبذل المزيد من الجهد».
وأضافت «لقد كان الذهاب إلى المدرسة فـي ديربورن صعباً جداً عليَّ لأنني كنت واحدة من عدد قليل من العرب الذين جاؤوا من عائلات مختلطة، وخلال العام الأول كان المعلمون يتكلمون معي باللغتين الإنكليزية والعربية حتى أتمكن من فهم الدروس ولكن خلال العام الثاني بدأ المدرسون يخاطبونني باللغة العربية فقط، مما جعل من المستحيل عليَّ أن أتعلم لغة أبي.
وقالت بتأثر وأسف: «عندما لم أكن أفهم كلام المدرسين كانوا يستشيطون غضباً».
بدورهم، مدرسو اللغة العربية يضيفون مشاكل عديدة خلال العملية التعليمية لعل أبرزها صعوبة التوفـيق بين اللهجات المحكية والعربية الفصحى، وفـي هذا السياق قالت هزيمة: «إن الآباء والأمهات غالباً ما يرغبون فـي أن يكون بمقدور أطفالهم إجراء محادثة بالعامية، إضافة إلى اللغة العربية الفصحى».
وأشارت إلى حقيقة أن الطلاب يأتون من مختلف دول الشرق الأوسط، حيث يتحدث الناس هناك لهجات محكية مختلفة، مما يجعل الأطفال محتارين ويواجهون صعوبات ملموسة فـي التفريق بين الطريقة التي يتحدثون فـيها العربية فـي منازلهم وطريقة كتابتها وقراءتها فـي الكتب المدرسية.
وبالعودة إلى رحمة حفني التي أخفقت بتعلم لغة وطنها الأم، فقد اعترفت بشعورها بالبعد عن ثقافتها، وهذا ما يدفعها إلى إخفاء أصولها العربية عن الآخرين، وتعبر رحمة عما تسميه «محنة الجيل الجديد من العرب الأميركيين» بالقول: «أنا لا أستطيع أنْ أنتمي للعروبة لأنني أشعر أنني لست كاملة العروبة» معترفة أنها تدَّعي أمام الناس الاخرين بأنها من أصول أفريقية حتى لا يتوقعوا منها أن تتكلم اللغة العربية.
مأساة رحمة تنطبق على كل جيلها وإذا لم توجد الحلول السريعة لِلَجْم هذا الانهيار اللغوي فكل الرحمة على اللغة الغربية فـي أميركا.
Leave a Reply