وأخيراً، نظر الشعب اللبناني الى ما هو أبعد من انتماءاته السياسية وهويته الطائفـية الضيقة وزعاماته الإقطاعية والحزبية، فوقف فـي وجه النظام السياسي الذي يضحي باللبنانيين يومياً على مذبح الفساد والعجز والسرقات وانعدام الخدمات الاساسية وانتهاك الكرامات الوطنية.
من هنا نؤيد بشدة انتفاضة اللبنانيين من أجل الإصلاح ضد الطبقة الحاكمة ونشيد بالمتظاهرين من حملة «طلعت ريحتكم» فـي تعبيرهم عن الإحباط الذي أصاب الجماهير، ولكننا فـي الوقت ذاته نحذرهم من الوقوع فـي فخ السياسة الحزبية والفئوية والمناطقية.
الطائفـية والمحسوبية والفساد وانعدام الكفاءة والجشع من أجل السلطة وتحقيق المكاسب الشخصية هي الخصائص التي ميزت وحددت وتحدد النظام السياسي اللبناني منذ الاستقلال وحتى اليوم. ولكن المشكلة ليست فـي شعب هذا البلد، كما تدل على ذلك حقيقة ان اللبنانيين ينجحون ويتفوقون فـي بلاد الشتات والمهاجر أكثر من وطنهم. فالعلة تكمن فـي نظام المحاصصة و٦ و٦ مكرر.
النظام الطائفـي، الذي أسسه المستعمر الفرنسي (غير الحنون) وعززه اتفاق الطائف عام ١٩٨٩ الذي أنهى -فرضياً- الحرب الأهلية التي استمرت زهاء ١٥ عاماً، وقف مذاك عائقاً أمام الإصلاح والتقدم والتغيير المنشود. وحوّل هذا النظام البائس كل طائفة فـي لبنان الى إقطاعية حاكمة بأمرها، تأتمر بأوامر زعيم واحد أوحد أو اثنين بأحسن الأحوال، وكل زعيم من هؤلاء الزعماء، من دون استثناء، لديه راع من الرعاة الخارجيين.
وهكذا تعمل الدولة ككونفدرالية للطوائف محاولةً التوفـيق بينها من دون توفـيق. وعلى الرغم من إجراء انتخابات «حرة» فـي البلد، وهنا حرة بالمعنى «النسبي» لأن المال السياسي الخارجي يتدفق بمليارات الدولارات، مثلما فعلت السعودية فـي انتخابات عام ٢٠٠٩ الماضية. لكن هذه الانتخابات «الحرة» تعود بنفس القادة الرئيسيين الى السلطة، فـيبقون فـي جنة الحكم مدى الحياة ويتوارثون السلطة أباً عن جد ويورثونها لأولادهم وأحفادهم مما يحول هذا النظام الى عالم عصابات تتضارب فـيه السلالات الحاكمة المشتتة والشعوب المتفرقة والتابعة لدين حكامها.
وفـي ظل نظام فوضوي كهذا، تتنافس الفصائل المتناحرة فـي البلد فـيما بينها، لا من أجل المصلحة الوطنية العامة، بل للحصول على حصة أكبر من غنائم الدولة. وبالتالي، تصبح المحسوبية والرشوة والوساطات مقبولة بل يشجّع عليها. ويصبح البيروقراطيون والمسؤولون الحكوميون ممثلين عن الطوائف والأحزاب السياسية لا المواطنين أو مصالحهم، فتنعدم الإنتاجية وتسوء الادارة وتتعطل مؤسسات الحكم.
والمصيبة الأكبر أن المسؤولين الفاسدين يتمتعون بأكبر حصانة وهم مصانون من الانتقادات والتشكيكات لأنهم يمثلون قاعدتهم السياسية ويلجأون اليها من أجل الدعم والمساندة فـي الملمات.
ثم جاءت رائحة أكوام القمامة التي أزكمت الأنوف فـي شوارع بيروت وباقي المناطق فأيقظت الشعب من غيبوبة الطائفـية. والحقيقة ان السياسيين اللبنانيين هم فعلاً نفايات بشرية، فالحكومة التي بلا رئيس جمهورية والتي لم تقدر على توفـير الكهرباء والأمن وتنظم حركة المرور أو تزيل القمامة هي حتماً حكومة فاشلة.
لكن المصيبة أن غرق لبنان بالنفايات لم يكن مفاجئاً للحكومة. فقد كانت تعلم بإغلاق مطمر النفايات الرئيسي فـي لبنان وانتهاء عقد شركة «سوكلين» لجمع القمامة فـي بيروت، فلم يشعروا بالحاجة الملحة للتحرك وإفراغ الأزمة من مضمونها قبل أن تنفجر فـي وجوههم لانهم تعودوا على وداعة النَّاس وصبرهم الأسطوري وعلى خطوطهم الطائفـية الحمر.
لقد غادر الشباب اللبناني صوامعه الطائفـية وتجمع تحت العلم اللبناني مبدياً الاعتراض على الوضع القائم. لكن القوات الأمنية، والتي غالبا ما تتجاهل الجريمة المنظمة والعنف المدعوم سياسياً، ردت على الاحتجاجات بالعنف وخراطيم المياه والرصاص المطاطي وحتى الرصاص الحي. وبدلاً من أن تقدم الحكومة اللبنانية الحماية للمتظاهرين، ثبت أنها على أهبة استعداد لمهاجمة شعبها.
وقد أبلى اللبنانيون والعرب الأميركيون هنا بلاءً حسناً فـي مناسبتين عندما أعلنوا عن دعم المتظاهرين فـي بيروت. ولكن فـي الوقت الذي ندعم فـيه حملة الاحتجاجات التي تأخذ منحىً تصاعدياً، نطلب من الشعب اللبناني المقيم والمغترب أن يتَّعظ مما حدث لسوريا والعراق ويعتبر من الآثار المدمرة الناجمة عن العنف. لذلك عليهم إبقاء الاحتجاجات سلمية وحضارية وعليهم مواجهة عنف السلطة بالصبر والمرونة من دون اللجوء إلى القوة والعنف المضاد.
وبالرغم من فشل الحكم فـي لبنان، لكنه لايزال يتمتع نسبياً بالاستقرار والتسامح الديني والحريات الشخصية وحرية التعبير، فـي خضم الفوضى المدمرة التي تتكشف كل حين فـي المنطقة المضطربة.
فلنحافظ على هذا الاستقرار حتى لا ينهار كل شيء.
اصلحوا لبنان، ولكن احموه برموش العيون وبسور الوحدة الوطنية المتين.
Leave a Reply