نبيل هيثم – «صدى الوطن»
«شبح يحوم فوق أوروبا». ربما تكون هذه العبارة التي استهل بها كارل ماركس البيان الشيوعي (المانيفستو) فـي العام 1847 صالحة للاستخدام اليوم. لكن الشبح لم يعد شيوعية ماركس وأنغلز، وانما طوابير اللاجئين الذين يحاولون عبور البوابة الشرقية للقارة الاوروبية أو مصارعة جحيم امواج المتوسط للوصول الى شاطىء الأمان، الذي دونه شجع المهرّبين ووحشية السلطات فـي بلاد اللجوء.
واذا كانت «كل قوى أوروبا العجوز قد اتحدت فـي حلف مقدس» ضد شبح الشيوعية فـي القرن التاسع عشر (من البابا والقيصر، الى مترنيخ وغيزو، ومن الراديكاليين الفرنسيين الى البوليس الألماني)، فإن أزمة اللاجئين، ومعظمهم أولئك الفارين من جحيم الحرب السورية، قد وضعت أوروبا اليوم أمام امتحان أخلاقي بالدرجة الأولى، واختبار خطير بشأن مدى تماسك الاتحاد الاوروبي الذي طالما تغنى به الاوروبيون، منذرة بانقسام على مستويين فـي القارة الزرقاء، الاول داخل الدول الاوروبية نفسها، فـي ظل تصاعد الموجة العنصرية الممثلة باليمين المتطرف، والثاني بين دول غرب أوروبا، الساعية الى حفظ ماء الوجه تجاه «مبادئ حقوق الانسان» من جهة، وبين حكومات دول شرق أوروبا، التي بدا أنها الأكثر وضوحاً فـي التعبير عمّا يجول فـي خاطر نظرائها فـي الغرب الأوروبي.
هكذا جاءت صورة الطفل السوري ايلان، الذي قذفته الامواج غريقاً على شاطئ بودروم فـي تركيا، ومشاهد الهجرة الجماعية للاجئين عبر مقدونيا والمجر، والاخبار عن الجثث المكدسة فـي شاحنة الموت فـي فـيينا، لتضع أوروبا فـي قفص الاتهام، وهو العنوان الذي تصدر صحيفة «التايمز» البريطانية قبل ايام، وفـيه تأكيد على ان اللاجئين السوريين يمثلون اختبارا مهما لقدرة الاتحاد الأوروبي على التحرك لمواجهة الأزمات.
وبعد تجاهل فاضح لازمة اللاجئين من جهة، وتقاعس مقيت عن ايجاد حل للصراع فـي سوريا من جهة ثانية، كانت 48 ساعة كافـية لكي تتجلى أزمة هوية تهدد أسس الاتحاد الأوروبي على قضبان السكك الحديدية قرب العاصمة المجرية بودابست، حين برهنت أوروبا على عجزها عن مساعدة اللاجئين لأنه لا يوجد إجماع أوروبي بشأن تحديد الطرف المسؤول عن مأساتهم، ولا على كيفـية التعامل مع الازمة المتفاقمة يوماً بعد يوم.
والغريب فـي الموضوع ليس ان الاوروبيين استفاقوا فجأة على مأساة المهاجرين فحسب، بل فـي أن معظمهم بات يذرف اليوم الدموع، بعدما واظب منذ سنوات على التشدد ليس فقط تجاه اي لاجىء سياسي أو اقتصادي، وانما تجاه كل ما هو غير أوروبي.
حتى الآن، وبرغم نداءات البابا فرانسيس للابرشيات باستضافة عائلات اللاجئين، والاجراءات التي تحدثت عنها المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، التي تحوّلت بين ليلة وضحاها الى «ام حنون» للمهاجرين وهو تحوّل ينطلق من اسباب اقتصادية تعود الى رغبة المستشارة الحديدية فـي استخدام اللاجئين لسد العجز فـي اليد العاملة لا يبدو ان ثمة حل شامل للأزمة المستجدة، والتي يرجح ان تستمر سنوات، كما افصح العديد من المسؤولين الأوروبيين.
كل ما فعله الأوروبيون هو اقتراح ألماني-فرنسي، انضمت لصياغته ايطاليا فـي ورقة مشتركة لإنشاء آلية دائمة لإعادة توزيع اللاجئين على الدول الأوروبية، فـي مقابل إقناع الدول الحدودية، خصوصا اليونان وإيطاليا، بتسجيل جميع اللاجئين لديها وعدم تشريع أبوابها لخروجهم.
وتسعى الخطة المقترحة لإقناع دول الاتحاد الاوروبي باستقبال 120 الف لاجىء، عبر نظام الحصص الإلزامية. بالتوازي مع ذلك، تقترح المفوضية إقامة نقاط ساخنة، للتعامل مع طلبات اللجوء فـي اليونان وإيطاليا والمجر. هذا ما بدأ العمل عليه، مسبقاً، فـي صقلية الإيطالية، ويجري تحضيره على جزيرة كوس اليونانية التي باتت مرفأ لقوارب المهربين.
ولن تقبل طلبات لجوء من سيعتبرون «لاجئين اقتصاديين» من دول «آمنة»، بحسب قائمة تصنيف وعد الأوروبيون بإصدارها، ولذلك تتضمن الخطة آلية ترحيل سريعة للمرفوضين.
ومع ذلك، فإن اقناع الاوربيين بدعم الخطة الفرنسية-البريطانية لا يبدو انه سيكون سهل المنال، خصوصاً ان ثمة محاولة مشابهة اقترحها الأوروبيون قبل أشهر، وكان الهدف منها إعادة توزيع 40 الف لاجئ وفق مبدأ الحصص بشكل طوعي، وهو ما رفضته حكومات أوروبية عدة، يتوقع أن تتخذ موقفاً مشابهاً اليوم، لا بل أكثر تشدداً خصوصاً ان المقترح يتحدث عن حصص ملزمة، مع فرض عقوبات مالية على الدول التي لا تنفذ.
وحتى الآن، لا يبدو ان المقترح الجديد سيحظى بالاجماع الأوروبي الضروري لاقراره وادخاله حيز التنفـيذ، فبريطانيا على سبيل المثال، وبرغم اعلانها عن رغبتها فـي استقبال 20 ألف لاجىء سوري، الا انها تشترط ان يأتوا من دول الجوار السوري، لا من دول أوروبية. اما المجر، وغيرها من دول أوروبا الشرقية، فـيبدو انها فضلت التحدث بوضوح، وابداء اسباب للرفض لا تجرؤ حكومات غرب أوروبا على قولها، ومفادها ان نظام الحصص سيكون «بمثابة دعوة للمهاجرين والمهربين»، فتسهيل تدفق المهاجرين ينذر بتغيير فـي الهوية الاوروبية، وخصوصاً فـي ما يتعلق بالدين.
والملفت للانتباه ان فرنسا، الشريكة فـي الاقتراح الجديد، حذرت من انه سيكون من الخطأ ان تستقبل أوروبا كل اللاجئين من الحرب فـي سوريا والعراق، باعتبار انه «لو جاء كل هؤلاء اللاجئين إلى أوروبا أو مناطق أخرى يكون تنظيم (الدولة الإسلامية) قد انتصر»، كما صرّح بذلك وزير خارجيتها لوران فابيوس.
وتجادل الدول المنضوية فـي معسكر الرفض للخطة الفرنسية-البريطانية، كذلك، بالموقف المخزي لدول الخليج العربي الثرية، التي ترفض استقبال اللاجئين ولم تقترح استقبال اي منهم، لا بل انها لم تصدر أي موقف بشأن الازمة الحالية، مع ان الدول الخليجية، وفـي مقدمتها السعودية وقطر، تتحمل المسؤولية الاكبر فـي مأساة مئات آلاف السوريين عبر تغذيتها للحرب السورية، وتحديداً عبر دعم المجموعات المسلحة الاكثر تشدداً.
وفـي ما يذرف الكل دموع التماسيح ازاء مأساة اللاجئين، فإن ما يطرح اليوم لحفظ ماء وجه الاتحاد الاوروبي، الذي يجاهر منذ تأسيسه باحترامه مبادئ حقوق الانسان، لا يغدو كونه جرعات تسكين ينضوي بعضها على مصالح خاصة، فـي وقت بدأت ترتفع اصوات اوروبية تطالب بمعالجة جذور الازمة الحالية لا اعراضها.
وفـي هذا الاطار، كان ملفتاً ما قاله المبعوث الدولي الخاص الى سوريا استيفان دي ميستورا، فـي معرض حديثه عن ازمة اللاجئين، حين حذر من أن آلاف اللاجئين الجدد سيفرون إلى أوروبا إذا لم يتمكن المجتمع الدولي من التوصل إلى اتفاق سلام ويترك السوريين فـي مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، متسائلاً «لماذا يفر الناس؟ لأنهم فقدوا الأمل بعد خمس سنوات من النزاع الذي لا ينتهي ويرون رابحاً واحداً فقط هو داعش».
وترسم تحذيرات ديمستورا سيناريوهات سوداء فـي حال اخفق المجتمع الدولي عن ايجاد حل للازمة فـي سوريا، ومن بينها ان نحو مليون شخص آخرين قد يتعرضون للخطر فـي غرب سوريا وربما ينضمون إلى موجة اللاجئين الساعين إلى الأمان فـي الاتحاد الأوروبي، لافتاً الانتباه الى ان اخفاق القوى العالمية فـي التغلب على خلافاتها خصوصا بشأن مستقبل الحكم فـي سوريا ودور الرئيس السوري بشار الأسد، يعني بالضرورة دعم هذه القوى لحل عسكري للنزاع الذي أودى حتى الآن بحياة نحو 250 ألف شخص، ومشدداً على ان «الوقت قد حان لإيجاد حل وإلا لن يبقى أي سوريين»، لا بل ان المبعوث الدولي ذهب أبعد من ذلك، فـي معرض قرعه جرس الانذار، حين حذر من ان المكاسب التي يحققها «داعش» يجب أن تدفع الجميع إلى الاستيقاظ، خصوصاً ان التنظيم المتشدد «على بعد أميال قليلة من دمشق»!
ومما لا شك فـيه ان تصريحات دي ميستورا لا تعبّر فقط عن وجهة نظر شخصية، بل تعكس تزايد الشروخ فـي الجدار الذي أقامته دول غربية لتضييق الخناق على سوريا، وهو ما تبدّى فـي دعوة وجهها مستشار النمسا الى الدول الغربية لضم سوريا وإيران وروسيا إلى المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، فـي حين ذهب رئيس الوزراء الاسباني ابعد من ذلك حين طالب بـ«التفاوض مع الحكومة السورية من أجل التوصل إلى وقف إطلاق نار»، فـيما يعد أكثر التصريحات تصالحاً نحو الأسد من جانب مسؤولين غربيين.
فهل تكون ازمة اللاجئين محفزاً للدول الغربية لتغيير مقاربتها للازمة السورية بعدما عملت طوال الاشهر الماضية على تسعيرها؟ ربما تجيب الاسابيع المقبلة عن هذا السؤال.
Leave a Reply