صبحي غندور
جيّد أن يُدرِك الكثيرون من العرب الآن ما كنّا نحذّر منه منذ بداية الانتفاضات الشعبية من مخاطر غموض طبيعة الثورات وعدم وضوح برامجها ومن يقودها، ومن التبعات الخطيرة لأسلوب العنف المسلّح ولعسكرة الحراك الشعبي السلمي، وأيضاً من عبثية المراهنة على التدخّل العسكري الخارجي، ونتائجه -فـي حال حصوله- على وحدة الشعوب والأوطان.
نعم هناك ضرورةٌ قصوى للإصلاح والتغيير فـي عموم المنطقة العربية، ولوقف حال الاستبداد والفساد السائد فـيها، لكن السؤال كان، وما يزال، هو كيف، وما ضمانات البديل الأفضل، وما هي مواصفاته وهويّته؟! فليس المطلوب هو هدم الحاضر دون معرفة بديله فـي المستقبل، أو كسب الآليات الديمقراطية فـي الحكم بينما تخسر الأوطان وحدتها أو تخضع من جديد للهيمنة الأجنبية، إذ لا يمكن الفصل فـي المنطقة العربية بين هدف الديمقراطية وبين مسائل الوحدة الوطنية والتحرّر الوطني والهويّة العربية. فهل نسي البعض ما قامت به إدارة بوش الابن بعد غزوها للعراق من ترويجٍ لمقولة «ديمقراطية فـي الشرق الأوسط» تقوم على القبول بالاحتلال والهيمنة الأجنبية ونزع الهويّة العربية وتوزيع الأوطان إلى كانتونات فدرالية؟ ألم يكن ذلك واضحاً فـي نتائج حكم بول بريمر للعراق، وما أفرزه الاحتلال الأميركي للعراق من واقع سياسي تسوده الانقسامات الطائفـية والإثنية بل والجغرافـية للوطن العراقي؟! ألم يحدث ما هو أخطر من ذلك فـي السودان من تقسيم لشعبه وأرضه؟! ومن ثمّ صراعات دموية حادّة فـي جنوب السودان نفسه ممّا أكّد أنّ المشكلة لم تكن فـي وحدة السودان، بل فـي صراعات القبائل والتنافس على الثروات والسلطة.
ما يُبنى على خطأ يؤدّي إلى نتائج خاطئة. هكذا هو حال الأوضاع العربية كلّها الآن. هو حال معظم الحكومات كما هو أمر معظم المعارضات. فحينما يتمّ بناء دول على أسس خاطئة، فإنّ ذلك يستتبع دعوة للتمرّد ولمحاولات الإصلاح. لكن فـي المقابل، حينما تكون حركات التغيير الإصلاحية هي نفسها مبنيّة على أفكار أو أساليب خاطئة (أو الحالتين معاً)، فإنّ ذلك يؤدّي إلى مزيدٍ من تراكم الأخطاء فـي المجتمع، وإلى مخاطر على الوجود الوطني كلّه.
أليس سؤالاً هاماً الآن: لماذا تشهد سوريا وليبيا هذا الحال السيء جداً، وما فـيه من مخاطر على وحدة الشعب والوطن والأرض فـي البلدين؟ رغم أنّ إسقاط النظام قد جرى فـي ليبيا، وكذلك التدخّل العسكري الأجنبي فـيها؟! أليس ذلك بدلالةٍ كبرى على مخاطر «عسكرة» الحراك الشعبي وعلى حتمية ارتباط «الثائرين» المسلّحين بقوى خارجية لها أجنداتها الخاصة، والتي لديها أيضاً خصومات وصراعات مع قوى خارجية أخرى؟! ثمّ ألم يكن كافـياً ما حدث ويحدث فـي ليبيا ليكون درساً لمن هم ما زالوا من المعارضة السورية يراهنون على تدخّل عسكري غربي ويصرّون على إسقاط النظام بالقوة العسكرية؟!. لقد سقط النظام الليبي السابق بفعل تدخّل «الناتو» وقُتل القذافـي والكثير من عائلته وأعوانه، فهل انتقلت ليبيا إلى وضعٍ أفضل؟ للأسف، ليست مؤسسات الدولة الليبية فقط هي المعطّلة الآن، وليس الأمن والاستقرار فقط هما المفقودان فـي ظلّ حضور الميليشيات المسلحة، بل وحدة المجتمع الليبي مهدّدة من أساسها، وتنخر الآن فـي هذا المجتمع أسوأ الفتاوى والجماعات التكفـيرية ممّا ينذر بتقسيم ليبيا وبفوضى أمنية وسياسية لا حدود مكانية أو زمانية لها.
هذه هي محصّلة التدخل العسكري الأجنبي الثاني بالمنطقة، فـي مطلع هذا القرن (بعد العراق)، من أجل تغيير نظام وتحقيق «الديمقراطية». وهذه هي نتيجة «عسكرة» الحراك الشعبي وثمن الارتباط بجهاتٍ خارجية. فإلى أين ستصل الأمور فـي سوريا بعدما ظهرت فـيها جماعات «داعش» و«النصرة» التي صنّفتها الولايات المتحدة ومعظم العالم بأنّها «جماعات إرهابية»، وهي التي تقاتل عملياً الآن فـي معظم المناطق التي تخضع لما يُسمّى بـ«قوى المعارضة السورية»؟!.
فلنفترض أنّ «المعارضة السورية» قد تنجح فـي إسقاط النظام وفـي تأمين تدخّل عسكري خارجي داعمٍ لها، فما هي صورة المستقبل السوري على ضوء التجربة الليبية، وبعد سوابق التجربتين اللبنانية والعراقية، وبحضور «النصرة» و«داعش» وما بينهما؟! بل ما هو مصير كل المشرق العربي بما فـيه لبنان والعراق والأردن بعد ذلك؟! وما سيكون مصير القضية الفلسطينية فـيما بعد التفكّك الذي سيحصل فـي بلدان المشرق العربي وحروب الطوائف والجماعات المسلّحة فـيه؟! أليست المعارك الدموية الجارية الآن بين من هم أصلاً يعارضون النظام السوري نموذجاً عمّا قد يحصل فـي عموم المشرق العربي؟! بل ألم تكن الصراعات التي جرت سابقاً بين القوى المسلحة فـي النزاعات اللبنانية والفلسطينية والعراقية، لكافـية لكي تنذر بما حذّرنا من حدوثه فـي سوريا، ثم حدث فعلاً!.
مهما قيل ويُقال عن النظام الحالي فـي سوريا، ومهما كانت هناك فعلاً حاجةٌ قصوى لإصلاحاتٍ كبيرة فـي الدولة السورية، فإنّ سوريا كانت تنعم بأمنٍ واستقرار ووحدة وطنية، وبدور إقليمي جعلها لعقودٍ من الزمن «لاعباً» مهمّاً فـي قضايا المنطقة، بينما هي الآن «ملعبٌ» لقوى إقليمية ودولية متصارعة. وأوْلى بكلّ مواطنٍ سوري أن يقيم جردة حساب بعد أكثر من أربع سنوات، ويسأل: «أين كنّا.. وأين أصبحنا.. ومن أجل ماذا.. ولمصلحة من؟».
هناك حتماً أبعادٌ خارجية مهمّة للصراع المسلّح الدائر الآن فـي سوريا، وهو صراع إقليمي-دولي على سوريا، لكنّ «الاحتكام للشعب» هو الحلّ المطلوب لما يحدث من نزيف دم فـي سوريا، يتحمّل مسؤوليته الآن بشكلٍ مشترَك الداخل السوري والخارج المتورّط فـيه، الحكم والمعارضة معاً. فكل طرف يدّعي الحديث باسم الشعب السوري وبأنّه يحوز على تأييد غالبيته، بينما يتعرّض هذا الشعب الصامد للقتل والدمار والتشريد. فلا حلاً للأزمة الدموية فـي سوريا من خلال الوسائل العسكرية بواسطة أي جهة داخلية أو خارجية، فذلك انحلالٌ للوطن والدولة وليس حلاً للمشكلة. الحل هو فـي وضع تسوية سياسية تفرض نفسها على كلّ الأطراف، ولا تقبل بأيّ شروطٍ من طرف على الطرف الآخر. وليكن الشعب السوري فعلاً هو المرجعية مستقبلاً لتقرير مصير وطنه وحكمه ورئيسه، من خلال فترةٍ انتقالية قصيرة متلازمة مع مواجهة أمنية ضدّ كل الجماعات الإرهابية المجمع الآن على رفضها.
سوريا الآن، كياناً وحكومةً وشعباً، أمام خياراتٍ صعبة لا يُعبّر أيٌّ منها عن كل «رغبات» أيِّ طرفٍ محلي أو خارجي معنيٍّ الآن بتطوّرات الأزمة السورية. فالفارق كبير بين «المرغوب فـيه» و«الممكن فعله». فقط «الرغبات» الإسرائيلية و«ما تريده» تل أبيب من تطوّرات الأزمة السورية هو الذي يتحقّق الآن، وهو مزيدٌ من التفاعلات والنتائج السلبية، داخلياً وإقليمياً، والمراهنة على تطوير «العلاقات» مع بعض قوى المعارضة وعلى عدم التوصّل إلى أيِّ حلٍّ سياسي فـي القريب العاجل..
فإسرائيل لا يوافقها توصّل واشنطن وموسكو وطهران إلى اتفاق كاملٍ بشأن الأوضاع فـي سوريا لأنّ ذلك يوقف النزيف الدموي فـي الجسم السوري، والعربي عموماً، ولأنّه يعني أيضاً تفاهماتٍ أميركية-غربية مع روسيا وإيران تتجاوز المسألة السورية، ممّا قد يدفع أيضاً بإعادة فتح الملف الفلسطيني ومسؤولية إسرائيل تجاهه. فهذه هي أولويات الأجندة الخارجية للرئيس أوباما والتي عرضها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عامين، والتي كان فـيها أولاً إنجاز الاتفاق الدولي مع إيران بشأن ملفها النووي، ثمّ تحقيق تسوية سياسية للأزمة الدموية السورية، ثمّ التعامل مع الملف الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية.
إنّ سوريا هي قضيةٌ حاضرة الآن فـي كلّ الأزمات الدولية، وسيكون مصير الحرب المشتعلة فـيها، أو التسوية المنشودة لها، هو الذي سيحدّد مصير الأزمات الأخرى فـي كلّ منطقة «الشرق الأوسط».
Leave a Reply