حسن خليفة – «صدى الوطن» – شيكاغو
تعد منطقة شيكاغو الكبرى أو «شيكاغو لاند» مقراً لجالية عربية كبيرة يعود تأسيسها الى أواخر القرن التاسع عشر ويقدر عدد أبنائها بعشرات الألوف وهناك من يقول إنهم تجاوزوا عتبة 250 ألف نسمة، ورغم اندماجهم الملحوظ بالمجتمع الأميركي، يصر الكثيرون منهم على الاحتفاظ بثقافتهم وهويتهم العربية رغم هول الأحداث والمآسي التي تعاني منها بلدانهم الأصلية.
قرية لومبارد التي تبعد عشرين ميلاً عن مدينة شيكاغو مثال على ذلك، فقد أقامت كنيسة سيدة لبنان» المارونية فـيها، مهرجانها السنوي الثامن للاحتفال بالمأكولات اللبنانية بمشاركة الآلاف من أبناء الجاليات العربية الذين توافدوا الى مقر الكنيسة المشرقية من مختلف الانتماءات والطوائف لحضور المهرجان الذي استمر لثلاثة أيام، وتخلله الكثير من الأطعمة الشرقية والموسيقى والدبكة والاركيلة والتحدث بالعربية.
«اننا نحتفل بتراثنا» قال راعي الكنيسة الأنطاكية السريانية المارونية، الأب بيار البلعة، وأضاف «أشخاص من جميع الأديان وعائلات من خلفـيات متنوعة.. جميعهم هنا هذه الليلة ولهذا نحن متحمسون جداً لهذا المهرجان».
وأردف أنه بالرغم من أن المهرجان كان يهدف فـي البداية الى جمع العرب المسيحيين من عموم المنطقة إلا أنه توسع ليستقطب أبناء الجالية العربية المنتشرين فـي أطراف متباعدة من «شيكاغو لاند» التي تضم عشرات المدن والبلدات والقرى إضافة الى مدينة شيكاغو التي تعد ثالث أكبر مدينة أميركية بعد نيويورك ولوس أنجلوس، ويقدر عدد سكانها بحوالي ٢،٧ مليون نسمة، من أصل عشرة ملايين يقطنون المنطقة.
وللجالية العربية فـي «شيكاغولاند» أحياء سكنية يشكلون فـيها أغلبية، وشوارع تجارية مزدهرة بأعمالهم. مثل ديربورن، حيث الهوية العربية تبقى ماثلة فـي العديد من الضواحي.
عبقت فـي اجواء المهرجان روائح هي مزيج من شواء اللحم والخبز الطازج فـي وقتٍ ملأ بائعو أصناف الأطعمة الذين ذكروا الحشد بأجواء أسواق الشوارع اللبنانية، أرض المهرجان وأحاطوا بالمنصة الرئيسية، فـي حين كان الفنانون مثل المغنية اللبنانية دوريس فرحات يطربون الجمهور بما صدح من الموسيقى والأغاني.
وكان الحاضر الأكبر فـي قائمة الماكولات، المناقيش التي كانت من بين الأطعمة الأكثر شعبية فـي المهرجان، حيث «يصعب هنا أن تجد مناقيش بجودة تلك التي تجدها فـي منطقة ديترويت».
وقال أحد الحضور، وهو من أصل فلسطيني، «أحياناً أفكر بالسفر الى ديربورن، لمجرد الاستمتاع بساندويش فلافل أو حتى منقوشة»، و«هذا المهرجان فعلا فرصة نادرة لي».
«انه أمرٌ لطيف ان تجتمع الجالية مع الكثير من اللبنانيين فـي مكان واحد»، قال حسين عدرا، وهو خبير برمجيات كومبيوتر الذي كان من بين الحضور.
سمعة المأكولات اللبنانية جذبت أيضاً الكثير من الأميركيين والأجانب.
ويسلي وام، طالب جامعي صيني أميركي يثابر على حضور مهرجان «كنيسة سيدة لبنان» منذ أربع سنوات، ويقول إنه يواظب على حضور المهرجانات التي تقدم مأكولات المطابخ الإثنية المتنوعة لكن «مهرجان المأكولات اللبنانية» يبقى المفضل لديه، «لأن معظم أصدقائه من العرب» ولأنه «يحب الناس هنا». وام أيضاً أبدى إعجابه الشديد بـ«منقوشة الزعتر» ووصفها بوجبته المفضلة.
وتوجت احتفالات ليلة السبت وصلة من الرقص الشرقي الذي أصبحت له شعبية متزايدة فـي أميركا، وقد تحلق جمهور كبير حول ثلاث راقصات تمايلن على أنغام الموسيقى التقليدية الشرقية.
متطوع مصري فـي المهرجان قال ان اسمه عماد، اختار أن يرتدي قميصاً عليه شعار «مجرد مصري يعيش فـي عالم إلينوي»، يقول إنه يعكس حال الكثيرين ممن هاجروا الى هذا العالم الجديد ويعيشون الصراع بين احتضان الثقافة الأميركية والحفاظ على الثقافة الأم.
وقال عماد إنه ماروني وكان يذهب الى الكنيسة فـي بلده، وعندما انتقلت عائلته إلى ولاية إلينوي، انضم معها الى رعية كنيسة «سيدة لبنان»، وثابر على حضور قداديسها منذ ذلك الحين.
واضاف عماد انه يشعر بوجود جوّ مرحّب به فـي شيكاغو «فهناك الكثير من العرب حيث أقيم».
أحد إداريي الكنيسة قال لـ«صدى الوطن»، «لقد عشت طوال حياتي فـي شيكاغو.. والجالية العربية منتشرة فـي العديد من الضواحي، فهم يقيمون فـي منطقة قطرها ٤٥ ميلاً من قلب المدينة».
أيمن وهاب، مهندس لبناني قال إنه نادراً ما يقابل عرباً فـي حياته العملية فـي شيكاغو، وقد قرر حضور المهرجان لأنه مناسبة لجمع أبناء الجالية والاحتفال بتراثنا. واستطرد وهاب «أفخر بكوني عربياً أميركياً وهذا جزء لا يتجزأ من هويتي» وتابع «بإمكانك اختيار الأفضل من ثقافتك الأصلية والاحتفاظ به، وبإمكانك اختيار الأفضل من الثقافة الجديدة واعتناقه.. وهذا ما يجعلك عربياً أميركياً».
وأضاف وهاب بأنه لا يشعر بالحنين إلى لبنان لأنه يعتبر شيكاغو وطنه، فهنا بإمكانه التعبير عن رأيه وتناول ما يشتهيه من الطعام.. «ماذا يريد المرء أكثر من ذلك؟».
جذور الجالية في شيكاغو
قصة العرب فـي شيكاغو لاند، وهو مصطلح يشير إلى منطقة شيكاغو الكبرى، يمكن إرجاعها الى عام ١٨٩٣ الذي شهد إقامة المعرض الكولومبي العالمي الذي قصده العديد من التجار العرب الذين وجدوا سوقاً لبيع بضائعهم. ووفقا لـ«موسوعة شيكاغو»، بعد استيطان هؤلاء التجار ولحاق عائلاتهم بهم، بدأ عدد السكان العرب يزداد فـي المدينة مذاك.
ومع تدفق المهاجرين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين فـي العقود اللاحقة بدأت الجالية العربية تتأصل فـي شيكاغو، حيث قام المهاجرون بشراء المنازل وإقامة المحال التجارية فـي محيط تقاطع جادة ميشيغن أفنيو مع الشارع 18 الى الجنوب من وسط المدينة، وقد تحولت المنطقة الى مركز جذب للمهاجرين العرب وأطلق عليها اسم «زحلة الصغرى» نسبة الى مدينة زحلة اللبنانية.
ويقول الكاتبان جاك لايت ولي مورتايمر فـي كتابهما عن تاريخ المهاجرين الأوائل فـي شيكاغو، «شيكاغو كونفـيدانشال»، «لن تجد جِمالاً على تقاطع شارع ١٨ مع ميشيغن».
ويصف الكاتبان «المربع العربي» فـي المدينة، بأنه كان مكتظاً بكاراجات ومعارض السيارات والمطاعم الشرق أوسطية وبائعي البسط والسجاد. اما السكان فكانوا يقضون أوقات الراحة والترفـيه بشرب القهوة العربية ولعب الورق.
الموجة الكبيرة الأولى من المهاجرين وصلت الى شيكاغو فـي الفترة الممتدة من مطلع القرن الماضي حتى الحرب العالمية الأولى، وتألفت من الفلاحين والحرفـيين ورجال الأعمال. وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، وصل تعداد الجالية العربية فـي شيكاغو الى حوالي ٣٠٠٠ نسمة معظمهم من اللبنانيين والسوريين، وفقاً لكتاب راي حنانيا بعنوان «عرب شيكاغولاند».
الموجة الثانية كانت إبان الحرب الأهلية اللبنانية، والتي ازداد معها عدد السكان العرب من اللبنانيين والفلسطينيين فـي «مدينة الريح» هربا من لظى الاضطرابات السياسية والأمنية والاقتصادية.
وأضيف للنسيج العربي فـي منطقة شيكاغو عدد كبير من الطلاب الجامعيين ما أدى الى مزيد من التنوع فـي الجالية العربية على الضفة الغربية من بحيرة ميشيغن.
ويشكل اليوم الفلسطينيون والأردنيون أغلبية السكان العرب فـي شيكاغو لاند، وقد بدأوا بالتوافد اليها منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولكن موجات الهجرة أخذت منحى تصاعدياً مع قيام دولة الاحتلال إسرائيل واستيلائها على أراضي الفلسطينيين وطردهم منها. وفـي أواخر الستينيات، شهدت شيكاغو تدفق مئات الفلسطينيين اللاجئين الى الولايات المتحدة، وبحلول السبعينيات أصبح ما يقرب من ٢٠ بالمئة من المحلات التجارية الصغيرة فـي المدينة مملوكة من قبل الفلسطينيين. بحسب كتاب حنانيا، الذي يؤكد أن الفلسطينيين اليوم يشكلون نحو ٦٠ بالمئة من عرب شيكاغو.
العرب في نسيج شيكاغو
من الصعب تحديد عدد العرب الأميركيين فـي الولايات المتحدة بدقة، لأنهم غير مدرجين ومصنفـين كأقلية فـي الإحصاء الوطني. غير ان بيانات احصاء عام ٢٠١٠ تشير الى أنهم حوالي ١،٩ مليون نسمة، فـي حين يؤكد «المعهد العربي الأميركي»، ومقره واشنطن، أن عدد العرب فـي أميركا يتخطى ٣،٥ مليون نسمة.
فـي ولاية إلينوي، تظهر بيانات الإحصاء الوطني أن سكان الولاية من أصول عربية يقدر عددهم بحوالي ٨٥ ألف شخص، يعيش معظمهم فـي منطقة شيكاغو الكبرى. بينما تشير تقديرات «المعهد العربي الأميركي» الى أنهم أقرب إلى ٢٥٦ ألف نسمة.
ومهما كانت الأعداد فان الجالية العربية الأميركية فـي إلينوي آخذة بالنمو، حيث ازداد عرب الولاية بنسبة ٤١ بالمئة بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٨، فـيما تضاعف تعدادهم ثلاث مرات مقارنة بالعام ١٩٨٠، وفقا لبيانات الإحصاء الوطني.
وتتركز مظاهر الحياة العربية الأميركية فـي شيكاغو لاند، فـي عدد من الضواحي الواقعة جنوب غرب المدينة، مثل بريدجفـيو، وأوك لون، وأورلاند بارك وهي من أقدم وأعرق المناطق ذات الكثافة العربية والمسلمة فـي عموم المنطقة، حسب حنانيا.
كما تتركز نسبة أقل من العرب فـي ضواحي شيكاغو الشمالية والغربية.
ومنذ أوائل موجات المهاجرين العرب الى منطقة شيكاغو اتسعت تدريجياً الآفاق المهنية والتجارية لهؤلاء حتى اكتسبوا موطئ قدم لهم فـي مجال الأعمال التجارية والسياسية فـي شيكاغو.
الطلبة المهاجرون، على سبيل المثال، انخرطوا فـي الجامعات وانتظموا للعمل كمهندسين وأطباء وصيادلة فـي المجتمع المحلي.
كما أنعش المهاجرون المنطقة تجارياً بافتتاح المحلات والأفران ودكاكين البقالة والمطاعم فـي العديد من المدن والبلدات فـي شيكاغو لاند.
وأطلقت الجالية العربية فـي شيكاغو العديد من المؤسسات الاجتماعية العريقة، من بينها «النادي السوري فـي شيكاغو» الذي تأسس فـي العام 1918 ويحمل اليوم اسم «النادي الفـينيقي»، وقد تم بناء أول مسجد فـي المدينة عام 1956، كما أُنشئ مركز الجالية العربية فـي العام ١٩٩٠.
وفـي العام ١٩٤٨، أسس موارنة لبنانيون نادياً قام بجمع التبرعات من اجل بناء كنيسة «سيدة لبنان».
أما أبرز إنجازات عرب شيكاغو فـيمكن تلخيصها بالممثل الراحل والفنان الكوميدي داني توماس (اسمه الأصلي مزيد يعقوب)، الذي كان من رعية كنيسة «سيدة لبنان» حيث أسس أكبر مركز لأبحاث سرطان الاطفال فـي الولايات المتحدة عام ١٩٦٢.
واليوم، هناك ٣٣ منظمة عربية أميركية ثقافـية ومهنية تخدم وتمثل العرب الأميركيين فـي منطقة شيكاغو، وفقا لـ«ألايد ميديا كورب»، وهي مؤسسة تعنى بالعلاقات العامة والتواصل مع الأقليات الإثنية.
Leave a Reply