محمد العزير
فـي انفعال اللحظة يسهل التأفف من سلوك بعض سكان مدينة سترلنغ هايتس من ابناء الجالية الكلدانية الأميركية المسيحيين الذين استنفروا ونشطوا لمنع بناء مسجد فـي مدينتهم. ويصبح مبرراً ما حصل من ردود افعال على ذلك، خصوصاً فـي مدينة ديربورن ومحيطها حيث أكبر تجمع سكاني للعرب الأميركيين المسلمين من اصول عراقية ولبنانية ويمنية، وان كانت المسألة تعني الفئتين الأوليين أكثر.
وفـي عاطفة اللحظة يمكن اشهار ما ذهبت اليه «صدى الوطن» فـي رسالتها المفتوحة الى الجالية الكلدانية فـي العدد الأخير من أن ظلم «ذوي القربى» أشد مضاضة.
وفـي استغلال اللحظة يمكن نبش الكثير من التفاصيل الإتهامية واستخدام المؤثر الصهيوني فـي الإدانة، فالصهيونية كإسم فـي حد ذاته مثير وتلوينه بـ«أيباك» واللوبي ضمان لفعاليته. (مع ان شبهة التواصل مع اللوبي لا تقتصر على فئة دون أخرى من كل مكونات الجالية).
وفـي شمولية اللحظة يصبح تشجيع الجيل العربي الأميركي الجديد وخصوصاً المولودين فـي هذه البلاد فـي الدخول على خط المشكلة من باب وسائل التواصل الإجتماعي لنشر تهديدات وتهديدات مضادة والإنغماس فـي قضايا ثانوية عالية الصوت لضمان ولائهم لمؤسسات لا تعنى بمستقبلهم قدر اهتمامها بآخرتهم.
ولكن فـي الحقيقة، التي يجب ان تقال وتعرف هي أن القضية لم تبدأ فـي ستيرلنغ هايتس، ولا تقتصر على مجموعة من الناس مهما بلغ عددهم، وليس فـيها ظالم ومظلوم أو مذنب وبريء. المشكلة ليست محصورة فـي مدينة بعينها او مشروع محدد أو واقعة بذاتها.
بداية ينبغي القول ان نزعة الإستقواء التي ظهرت فـي ردود الفعل -ولتسمية الأشياء باسمائها الإستقواء على الجالية الكلدانية ككل- والتهديدات المبطنة والتلميحات الى مقاطعة جالية بأكملها و«منع» أفرادها من التجارة أو العمل أو التسوق فـي ديربورن وجوارها غير جائزة وغير مقبولة ولا يمكن السكوت عليها، ولا تكفـي امامها مواقف لفظية فارغة. هذا منطق لا ينتمي الى أميركا أولًا، ولا يفـيد الجالية بمختلف مكوناتها فـي شيء ويجب وقفها وان استدعى الأمر التدابير القانونية اذا ارتفعت حجة عدم القدرة على السيطرة من قبل المعنيين فـي الجالية. والكلام نفسه ينطبق على أحاديث «الدعشنة» والإرهاب المستلهمة لمنطق قناة «فوكس نيوز» وعتاة العنصريين اليمينيين هنا.
السؤال الذي يطرح نفسه بشدة ازاء هذه القضية وادعاءات القرابة والوحدة المفترضة فـي الجالية هو الى ماذا يستند اصحاب هذا القول فـي طرحهم؟ ليس فـي هذا الطرح الا تمنيات عاطفـية لا تغني ولا تسمن. متى كانت آخر مرة تتواصل فـيه قيادات الجالية والفعاليات المعنية بالشأن العام للقيام بأي شيء له معنى من أجلنا هنا؟ من أجل مستقبل أولادنا وإخوتنا ومن أجل تحسين ظروفنا السياسية والإجتماعية والمعيشية؟ متى كانت آخر مرة يحصل فـيها نشاط مشترك، وتحديداً بعد صدمة الهجمات الإرهابية الدامية فـي نيويورك وواشنطن؟
منذ ذلك التاريخ حصل أمران، الأول أن مؤسسات الجالية انكفأت على نفسها ولم تبق فـي الميدان، باستثناء المؤسسات الخدمية مثل مركز «أكسس» والمجلس العربي الأميركي والكلداني، فيما المؤسسات الدينية لم تتوان عن التوسع بمعطيات وحوافز وقضايا وانتماءات وولاءات الوطن الأم، إن كان العراق أو لبنان أو سوريا أو اليمن الذي يعيش براكين دموية ووسياسية وديموغرافـية وقمعية متواصلة، ناهيك عن قضية فلسطين المزمنة. كيف اتفق لأناس يدعون انهم رجال دين أن يكتشفوا فـي أميركا فضائل التبشير الديني الداخلي فـيسدون أثير الإذاعات والشاشات ويحبرّون الأوراق فـي دعاوى دينية تتراوح بين اقناع المسلمين أن دينهم منحول وبين اقناع المسيحيين بأن المسيح لم يصلب وانما شبه لهم؟ وكل ذلك بلغة الضاد الفخمة.
الأمر الثاني هو تشكل جالية جديدة ذات كثافة عالية من العراقيين المهاجرين واللاجئين من اتباع الإسلام، اصبحت هذه الجالية التي عانت أهوال ثلاث حروب والكثير من القمع والحصار والتشريد قبل أن تصل الى العالم الجديد، على الفور حقلاً للمؤسسات الدينية التي لم تقدم لهم اي مساعدة فعلية بل عمدت الى اعادة تشكيل انتماءاتهم العائلية والمناطقية الأكثر بدائية وتنازعتهم كجمهور جديد يكفـي ويتسامح مع ادعاءات مرجعيات دينية مستحدثة تعتاش على البؤس وعلى كيديات موروثة من الوطن الأم، فـي حالة من تشجيع الإستثمار فـي الماضي بدل التوجه الى المستقبل.
لا يقتصر اللوم على المؤسسات الدينية مسيحية كانت أم إسلامية، مع أنها هي التي تتصدر المشهد فـي السنوات العشر الأخيرة، وانما ايضاً على القيادات المدنية والنشطاء الذين استسهلوا العبور الى الجمهور الذي تضمنه لهم المؤسسات الدينية. ولا تستثني المسؤولية وسائل الإعلام التي تطلق العنان شفهياً وخطياً لأكثر الآراء استفزازاً وتطرفاً ولا تقيم حرمة لمقام أو موقع دون أن تكون قادرة على إيجاد منبر للحوار أو أن تمنح حقاً متساوياً فـي الرد، بينما العناوين الرئيسة على الصفحات الأولى تنضح كيداً بحسابات بلدية وانتصارات أطراف المذبحة الدائرة فـي الوطن الأم. والجواب الجاهز دائماً على اي اعتراض، هو أن حرية الرأي تقتضي ذلك رغم عنها حرية باتجاه واحد.
هل يمكن لأحد من قيادات الجالية ان يذكر دعوة تم توجيهها الى الجالية الكلدانية مثلًا أو حتى الى الجالية اللبنانية المسيحية فـي «المنطقة الشرقية» خارج نطاق الأنشطة الحزبية المقسمة، وبعيداً عن الدعوَات الدورية لجمع التبرعات؟ والسؤال نفسه موجه الى المؤسسات الرديفة فـي الجاليات المذكورة.
المؤسف انه حتى النشاط الوحيد والعريق والذي كان اسمه المهرجان العربي فـي قلب مدينة ديترويت انسحبت منه فعاليات ديربورن محولة اياه بالضرورة الى مهرجان كلداني واستبدلته بمهرجان آخر فـي ديربورن ما لبث ان توقف هو الآخر بينما تضاعفت اعداد المشاركين فـي اللطم العاشورائي ونكاد نصل الى اعادة تنشيط الركضة والطواف فـي ديربورن وتوظف المقدرات والجهود من كل جانب لإحياء شعائر مذهبية لا يفهم مغزاها الأميركيون.
منذ بضعة اسابيع انتشر على وسائل التواصل الإجتماعي فـيديو يتباهى فـيه عربي اميركي بأنه تصدى بالضرب لـ«دواعش» فـي ديربورن. كانت الحادثة معبرة جداً لأن المشكل الذي تضارب فـيه الشباب حصل فـي عيادة طبيب عربي أميركي. التعليقات التي استدرها الفـيديو والتهاني التي انهمرت على ناشره وحيّت شهامته ورجولته لم تهمل أن تشير الى ان فعلته كانت تعبيراً عن حمية عائلته وسمعة مدينته. لم تكن المدينة ديربورن بالطبع، وبالتأكيد لم تكن ستيرلنغ هايتس. كانت هناك حيث الناس يقتلون بعضهم بحماس على الهوية وحيث تتبعهم قياداتنا هنا بفرح وبهجة.
المسألة ليست فـي سترلنغ هايتس، ولم تبدأ هناك وللأسف لن تنتهي هناك. وإنما المسألة هي فـي القصور لدى قيادات الجالية اجمعين. المسألة فـي ان تتكون لدينا الثقة بالنفس لنقول إننا هنا فـي أميركا آمنون ونعيش فـي ظروف جيدة عموماً، وأحرار فـي ما نقول ونفعل، وإنه آن الأوان لنكون فـي موقع القيادة فـي جاليتنا أولاً وفـي أوطاننا الأم ما استطعنا الى ذلك سبيلًا، ثانياً، لأنه لو كان ما نسعى اليه فـي تبعيتنا للسياسات القديمة جيداً لما كان هناك سبب ليهاجر معظمنا ولما كانت المذبحة القائمة هناك مستمرة بهذا الزخم. وكفانا ولائم واحتفالات بأي مسؤول يأتينا من البلاد تزلفاً وكيداً.
علينا نحن واجب ان نعطي مثالًا افضل، هذه مسؤولية تاريخية وحيوية لا تعفـينا منها كل الإتهامات وكل الإدانات. وقبل أن نسقط فـي مستنقع التعميم الذي يحاصرنا فـي الأصل من بعض القوى فـي محيطنا علينا أن نعي أن التعميم سواء كان للكلدان أو الشيعة أو السنة أو العرب يصب فـي خانة واحدة وهي خانة التعميم التي تحاصرنا جميعاً والتي لم يعد اصحابها يخجلون من اعلانها على الملأ.
Leave a Reply