شكلت زيارة البابا فرانسيس للولايات المتحدة، الأسبوع الماضي، علامة فارقة ومؤثرة فـي المشهد العالمي الذي يشهد الكثير من الأزمات والانقسام، بما تضمنته من رسائل تدعو لتعميق السلام وإفشاء الرحمة والتسامح بين المجتعمات من جهة، وبين الأفراد من جهة ثانية، وذلك بغض النظر عن عقائدهم الدينية.
وأهمية خطابات البابا التي ألقاها فـي عدة مدن أميركية تكمن فـي إمكانية اعتبارها نماذج ينبغي الاحتذاء بها وتبنيها من قبل الناس العاديين والقادة الروحيين من مختلف الأديان، خاصة على ضوء الحساسيات بين الغرب والشرق والتي تتزايد يوما بعد يوم بين جماهير المؤمنين بهذا الدين أو ذاك، وفـي كثير من الأحيان داخل صفوف الدين الواحد ذاته.
فموجة العداء المتزايدة فـي الغربين الأوروبي والأميركي تحوّل حياة المهاجرين إلى جحيم شبه يومي، وانقسام المسلمين وتشرذمهم على خلفـيات مذهبية تؤجج الصراع الطائفـي فـي بلدان العالم الإسلامي الذي يذهب ضحيته مئات الأبرياء يوميا، فـيما يكشف عن مفارقة قاسية يصعب فـي كثير من الأحيان هضمها أو فهمها، إذ كيف للأديان (التي تدعو جميعها إلى الأخوة بين البشر ونشر السلام والوئام بينهم) أن تصبح سببا فـي تفشي الكراهية والبغضاء والإيغال فـي الجريمة والعداوات والأحقاد؟
صلوات البابا على راحة أرواح الحجاج المسلمين الذين قضوا جراء التدافع بمنى فـي مكة المكرمة، وإدانته لفضيحة استغلال الأطفال من قبل بعض القساوسة الكاثوليك، وتصريحاته الإيجابية حول الملحدين، تندرج جميعها فـي سياق الانحياز والانتصار للمعاني الإنسانية والأخلاقية السامية بالدرجة الأولى، بحيث لا يشكل الانتماء الديني، أو عدمه بالنسبة لغير المؤمنين، موضوعا لمحاكمة للبشر والتحيز ضدهم، لأن فـي ذلك، الطريقة الوحيدة لـ«إعمار» العالم و«تعمير» العلاقة بين الناس..
ونحن محكومون بالتعايش مع بعضنا البعض على هذا الكوكب، خاصة فـي هذا العصر الذي تنفتح فيه على بعضهم البعض، الدول والمجتمعات والأفراد البعض بطريقة إيجابية لم يشهد لها العالم مثيلا، وبالتالي فإن أي اقتتال أو تنازع أو مأساة سوف تنتشر أخبارها وتترك آثارها الأليمة فـي نفوس الجميع، فهذا العالم أصبح حقيقة مثل «الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» على حد تعبير الحديث النبوي الشريف.
والحبر الأعظم، وهو ابن أحد المهاجرين الأوروبيين إلى الأرجنتين، فـي رسالته إلى الأميركيين ودعوتهم إلى الترحيب بالمهاجرين، بدل رفضهم وإظهار العداوة لهم، تكتسب معاني إضافـية عظيمة خاصة فـي هذه الأوقات التي يبرر فـيها الكثير من المتعصبين والمتحيزين ضد المهاجرين انطلاقا من تخوفات دينية، تهدد على حد زعمهم، بـ«أسلمة» العالم الغربي. ومن المؤسف أن يعارض بعض المسؤولين الأميركيين دعوة البابا بالاستماع والتعاطف مع قصص المهاجرين، فها هو عضو الكونغرس الجمهوري مايكل ماكول، وهو روماني كاثوليكي، يعلق على كلمات قداسته قائلا «قبول المهاجرين سوف يخلق قناة لتدفق الإرهابيين».
وفـي هذا الإطار، كانت دعوة البابا للأميركيين الكاثوليكيين ببناء مجتعمات منفتحة ومتسامحة ورفض أي شكل من اشكال التمييز ضد الآخرين. وإننا لنأمل أن يصل صوت قداسة البابا إلى كل المجتعمات الدينية فـي الولايات المتحدة، وخاصة هنا فـي منطقة مترو ديترويت، حيث تصاعد الخطاب العنصري ضد المسلمين وكانت آخر تجلياته منع إقامة مسجد فـي مدينة ستيرلنغ هايتس.
فـي حديقة البيت الأبيض، قال قداسة البابا «إن الإنسانية ماتزال لديها الفرصة للعمل معا من أجل بناء بيت واحد يحتضن الناس جميعا»، ونحن ندعو لأن تكون منطقة ديترويت حضناً دافئاً لجميع أهلها، وفـي مقدمتهم المهاجرون واللاجئون..
Leave a Reply