نبيل هيثم – «صدى الوطن»
مع بدء الضربات الجوية للمقاتلات الروسية فـي سماء سوريا، التي استهدفت فـي دفعتها الاولى تجمعات للفصائل المسلحة فـي الشمال السوري، تكون روسيا قد انخرطت بشكل مباشر فـي الصراع السوري المستمر منذ ما يقرب من خمسة اعوام.
هو تطور ميداني يشكل نقطة تحوّل مفصلية فـي مسار الصراع الدائر فـي سوريا بشكل خاص، وفـي الشرق الاوسط على وجه العموم، وامتداداً محطة فارقة على مستوى العلاقات الدولية، فـي ظل عودة روسيا الى المشهد بشكل تراكمي منذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين الى الكرملين قبل ما يقرب من 15 عاماً.
وفـي ما يتعلق بسوريا، فإن التدخل العسكري الروسي يأتي تتويجاً لمسار طويل سلكه الكرملين منذ العام الاول للصراع المسلح، تمثل بداية فـي الموقف الصلب ازاء المسألة السورية فـي المحافل الدولية، ومن ابرز تجلياته استخدام الـ«فـيتو» ضد قرارات مجلس الامن الدولي المعادية لسوريا، واحباط محاولة اميركية لتوجيه ضربة عسكرية لنظام الرئيس بشار الاسد، على خلفـية المزاعم الغربية بشأن السلاح الكيميائي.
هكذا انتقلت السياسة الروسية ازاء سوريا من الطابع الخطابي، ومن ثم الديبلوماسي، مروراً بالدعم العسكري والسياسي، لتصل الى مستوى التدخل المباشر عبر توجيه ضربات موضعية ضد الجماعات الارهابية.
ولعل اول ما يمكن تسجيله فـي هذه المقاربة الروسية لمكافحة الارهاب فـي سوريا تأتي بعد عام على الفشل الذي اتسمت به الحملات الجوية التي نفذتها طائرات «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة الاميركية ضد تنظيم «داعش» فـي العراق وسوريا، وفـي لحظة فارقة، ظن خلالها البعض ان الصراع الدائر فـي سوريا بات امام امر واقع خلقته الجماعات المتشددة من ناحية، والولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون من ناحية ثانية، بغرض تفتيت سوريا، واسقاط دولتها.
وفـي ظل التحولات الجارية فـي المنطقة العربية، وفـي لحظة حساسة بالنسبة الى الولايات المتحدة، حدد الرئيس فلاديمير بوتين الساعة الصفر للتدخل فـي سوريا، واضعاً الكل أمام أمر واقع جديد، أحسن من خلاله «القيصر»، القادم من دوائر الاستخبارات الى قصر الكرملين، فـي فرض معادلة جديدة، تناقض بـ180 درجة، المقاربة الاميركية التي كانت سائدة، سواء على المستوى العسكري أو السياسي أو القانوني.
وفـي الميدان، بدا واضحاً ان الضربات الجوية الروسية قد حددت اطاراً لمحاربة الارهاب يتجاوز الاطار الاميركي المحصور بتنظيم «الدولة الاسلامية». وعلى هذا الاساس، كانت الرسالة الجوية الاولى ملفتة، والتي تمثلت فـي اختيار «جبهة النصرة» وحلفائها هدفاً اولياً فـي بنك الاهداف الروسية، لتنفـيذ اولى الغارات الروسية.
هذا الامر، عكسه حديث الرئيس بوتين عن حيثيات التدخل الروسي فـي سوريا، والذي حدده بقوله ان «القوات الروسية متواجدة فـي سوريا لمحاربة الارهاب»، ما يعني بعبارة اخرى ان الحديث لا يقتصر على تنظيم «داعش» وانما يشمل كل المجموعات المسلحة الاخرى، المناهضة للرئيس بشار الأسد، وفـي مقدمتها «النصرة» و«جيش الفتح» اللذين يضمان فـي صفوفهما متشددين لا يقلون ارهاباً عن متشددي «داعش» ومن ضمنهم ارهابيون روس وشيشان.
وكان بوتين واضحاً فـي هذا السياق، حين قال ان روسيا تدرس مسألة زيادة الدعم لأولئك الذين يقاتلون حقا فـي الميدان ضد الإرهابيين بما فـيهم «داعش»، كالجيش السوري و«وحدات الحماية الكردية»، وتأكيده على ان روسيا ستواصل دعم الجيش السوري فـي الحرب ضد الإرهاب، وبأن عملية مكافحة الإرهاب فـي سوريا يجب أن تسير بشكل متواز مع العملية السياسية.
وفـي الجانب السياسي، فإن التدخل العسكري الروسي يأتي فـي سياق مقاربة روسية لاطار الحل السياسي فـي سوريا، والذي حددته موسكو، بعد مشاورات اقليمية ودولية، بتشكيل حكومة ذات صلاحيات موسّعة، تتعايش مع الرئيس بشار الأسد بعد تقليص صلاحياته، وتكون مهمتها انجاز مرحلة انتقالية مدتها عامان، تجرى خلالها انتخابات رئاسية باشراف الدولة السورية ورعاية اممية، ويكون فـيها الأسد أحد المرشحين.
ومن شأن المقاربة الروسية المتمسكة بدور للأسد فـي الحل السوري أن تعيد الامور الى نصابها الطبيعي، بعد ظاهرة خطيرة تبدّت خلال الاسابيع الماضية، فتمثلت فـي ان القرار السوري خرج من ايدي السوريين، ليصبح رهناً بإرادات الروس والايرانيين والاتراك والاميركيين والاسرائيليين. وما حديث الرئيس فلاديمير بوتين عن ان التدخل الروسي جاء بناء على طلب من الاسد، سوى تأكيد على ان موسكو تتحرك ضمن العلاقات الثنائية مع الدولة السورية ورئيسها على وجه الخصوص فـي ظل محاولات الاقصاء الواضحة من قبل القوى الأخرى.
ومع ان المقاربة الروسية تلك، تتعارض فـي جوهرها مع مواقف القوى الاقليمية والدولية التي اسهمت فـي تأجيج الصراع السوري، الا انه كان ملفتاً للانتباه خلال الايام الماضية أن الاميركيين، وبرغم تصريحاتهم العلنية بشأن مستقبل الرئيس بشار الأسد، باتوا مسلّمين بالامر الواقع، خصوصاً مع فشل «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة فـي تحقيق أي انجاز ميداني يذكر ضد تنظيم «داعش»، طوال العام المنصرم، وفشل خطة تدريب المقاتلين الذين تصنفهم الادارة الاميركية ضمن ما يسمّى «المعارضة المسلحة».
وعلى هذا الاساس، يبدو أن الروس قد نجحوا فـي إقناع إدارة الرئيس باراك أوباما بأنّ استمرارَ الأسد فـي هذه المرحلة ضروري، وهو أمر ما كان ليتم لولا الحراك الروسي على المستوى الديبلوماسي من جهة (علماً بأن ثمة سابقة فـي التوافق الروسي – الاميركي تجاه سوريا حين أحبط الروس توجيه الضربة الاميركية على سوريا بسبب الملف الكيميائي)، والتحرك العسكري الاخير المتمثل فـي ارسال عشرات الطوافات والمقاتلات والدبابات ومئات الجنود والمستشارين الروس الى سوريا.
وكان مثيراً للانتباه ما قاله المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف، خلال الايام الماضية، من أن «موسكو ترى لدى أميركا استعدادا للتعاون مع روسيا من أجل حل قضايا ملحة بينها الأزمة السورية»، وتشديده على ان فكرة «عزل روسيا» غير واقعية وتخالف المنطق السليم لأن هذا العزل «مضر لتسوية الأزمة السورية وغيرها من الأزمات الحادة».
وفـي هذا الاطار، كان بوتين واضحاً فـي رده على الحديث الاميركي والفرنسي عن ضرورة رحيل الأسد، حين قال إن «أوباما و(الرئيس الفرنسي فرانسوا) هولاند ليسا مواطنين سوريين ولا يمكن أن يشاركا فـي تقرير مصير الشعب السوري».
ويبدو ان بوتين يحارب أوباما بسلاح الوقت، اذ يسعى إلى اتفاق يثبِّت الأسد فـي مستقبل سوريا. ومن هنا، فإن الضربات الجوية الروسية تأتي لتعطي بوتين نقطة اضافـية فـي الكباش السياسي حول سيناريوهين، الاول روسي يسعى الى مرحلة انتقالية تعيد سيطرة الدولة السورية على كامل سوريا، مع قطع الطريق امام جهود اخراج الأسد من المشهد، والثاني اميركي يسعى الى ان تكون المرحلة الانتقالية ممرّاً إجبارياً لخروج الأسد.
وفـي هذا الكباش السياسي، يبدو ان بوتين يركز على ان أوباما يتحرك فـي الوقت الضائع، مع بدء العد التنازلي لانتهاء ولايته الرئاسية، ومن هنا فإن التحرك العسكري الروسي يستهدف بشكل او بآخر وضع الاميركيين أمام الأمر الواقع، للتسليم بوجهة نظر الكرملين للحل الروسي، عبر تقديم اغراءات بشأن مكافحة الارهاب، فـي مقابل ثمن سياسي، بحيث تنضج التسوية السورية قبل رحيل أوباما من البيت الابيض، ولتمثل هذه التسوية امراً واقعاً جديداً امام الرئيس الاميركي المقبل، سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً، والذي سيكون فـي حاجة الى فترة زمنية لا تقل عن عام كامل للإمساك بزمام الملفات الدولية المعقدة.
وعلاوة على ذلك، فقد بدا واضحاً، حتى قبل بدء الغارات الروسية، ان معظم القوى الاقليمية قد نزلت من شجرة التعنت، التي اعتلتها طوال سنوات الازمة الخمس، ان لجهة العملية الانتقالية المطلوبة للحل فـي سوريا، أو على مستوى المشاركة الايرانية فـي القتال ضد «داعش».
وعلى سبيل المثال، فإن وزير الخارجية القطري خالد بن محمد العطية، دعا مباشرة إيران إلى الانخراط فـي حوار مع مجلس التعاون الخليجي على قاعدة عدم التدخل فـي الشؤون الداخلية للدول العربية والبحث من دون انتقائية فـي كل القضايا المتعلقة بالأزمات فـي الدول العربية، فـي سوريا والعراق واليمن ولبنان، وتأكيده على ان «أي مبادرات لحل الأزمة السورية لا تكون مبنية على بيان «جنيف 1» ويقبلها الشعب السوري، بما يتضمن تأسيس هيئة انتقالية بصلاحيات تنفـيذية كاملة لا يكون للرئيس السوري بشار الأسد دور فـيها، لن تنجح مهما طُرح من مبادرات، لأن الشعب السوري قال كلمته».
وبرغم استخدام وزير الخارجية القطري عبارة «لا يكون للرئيس السوري بشار الاسد دور فـيها»، الا ان اعتماده مرجعية «جنيف 1»، المتعددة التفسيرات، تبقي الباب مفتوحاً امام التسليم بالمقاربة الروسية تجاه سوريا، والتي تقوم على مبدأ ان الرئيس بشار الأسد هو الممثل الشرعي الوحيد للدولة السورية.
أما الرئيس التركي رجب طيب اردوغان فـيبدو ان كل محاولاته المستميتة لتحقيق اجندته فـي سوريا قد باءت بالفشل. ويمكن القول ان اولى الغارات الروسية على مواقع المسلحين فـي الشمال السوري قد مثلت مسماراً فـي نعش خطة المنطقة الآمنة-العازلة التي سعى «السلطان» العثماني الجديد الى فرضها، واستخدم من اجلها كل وسائل الترغيب والتهويل عبر محاولة رشوة الاميركيين بفتح قاعدة أنجيرليك امام طائراتهم او العزف على وتر سيل المهاجرين الى اوروبا، وها هو المخطط الاردوغاني يصطدم اليوم بمعارضة مزدوجة، اوروبية واميركية، عبرت عنها المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل بالتحذير من أن المنطقة الآمنة تنذر بواقع كارثي يشبه مجزرة سربرينيتشا فـي يوغوسلافـيا السابقة.
وفـي هذا السياق، يمكن فهم تصريحات أردوغان الاخيرة بشأن سوريا، ومن بينها الانعطافة غير المباشرة، التي المح خلالها الى قبوله بحل سياسي يشمل الاسد.
إذاً، تحت هذا السقف السياسي، تتحرك المبادرة الروسية، وخلفها الايرانية، التي بدأ ترتيب الارض لها من خلال الاتفاق الذي تمّ برعاية إيرانية على الهدنة فـي الزبداني وبلدتي كفريا والفوعة فـي ريف إدلب، وهي تجربة يرجح المراقبون ان تمتد الى أكثر من رقعة مشتعلة فـي سوريا.
وإذا نجحت القوى الدولية فـي بلوغ التسوية السياسية الكبرى، فهذا يعني أنّ سوريا قد تنجو من التقسيم أو التفتيت. وأما إذا فشلت التسوية، فسوريا تسير نحو المجهول.
هكذا يمكن القول ان المبادرة بالنسبة لسوريا قد أصبحت اليوم بيد الجانب الروسي وليس الأميركي، وبدا ذلك واضحا من خلال طلب الرئيس الأميركي باراك أوباما اللقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولعل طلب الرئيس باراك أوباما أن تعقد محادثات عسكرية مع الروس بشأن سوريا، وهو ما نظر اليه كثيرون، حتى داخل الولايات المتحدة، على انه تسليم بالأمر الواقع، وخلاصته ان روسيا باتت موجودة عسكريا وبالفعل فـي سوريا، وبأن سوريا ليست ليبيا، وبأن الرئيس بشار الاسد ليس العقيد معمر القذافـي.
Leave a Reply