صبحي غندور
إنّ كل الأطراف الدولية والإقليمية، الخصمة والصديقة لواشنطن، تعتبر الآن «داعش» حالة إرهابية يجب محاربتها أولاً. وقد يكون ذلك هو القاسم المشترك الذي تراهن عليه إدارة أوباما من أجل صياغة تسويات سياسية توافق عليها تحديداً روسيا وإيران والسعودية وتركيا ومصر، وتشمل الأوضاع فـي سوريا والعراق واليمن ولبنان، ممّا يمهّد أيضاً (حسب الأجندة الأوبامية) لتعاملٍ دولي وإقليمي مشترك مع الملف الفلسطيني، قبل حلول خريف العام 2016 واستحقاقاته فـي الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ولعلّ من المهمّ هنا التذكير بما قاله الرئيس أوباما فـي منتصف العام الماضي (22-6-2014) فـي مقابلة تلفزيونية مع شبكة «سي بي أس» الأميركية حول الأوضاع فـي سوريا. قال أوباما: إنّ تنظيم الدولة الإسلامية فـي العراق والشام» (داعش) استغلّ حدوث فراغ فـي السلطة فـي سوريا لجمع الأسلحة والموارد وتوسيع سلطته وقوته على الأرض». وردّاً على سؤال فـيما إذا قرّرت واشنطن دعم قوات المعارضة المعتدلة فـي سوريا، فهل سيكون هذا الفراغ موجوداً؟ أجاب أوباما: فكرة وجود قوة سورية معتدلة جاهزة لهزيمة الأسد ليست صحيحة وبالتالي، فإنّ الفراغ بكل الأحوال سيكون موجوداً. وأوضح أوباما أنّ إدارته «استهلكت وقتاً كبيراً فـي العمل مع المعارضة السورية المعتدلة، ولكن وجود معارضة مثل هذه قادرة على الإطاحة ببشّار يبدو الأمر غير واقعي».. و«فانتازيا»، بحسب تعبير الرئيس أوباما.
فربّما تكون أولوية المواجهة مع «داعش» هي الفرصة الوحيدة المتاحة حالياً لإدارة أوباما لتحقيق أجندة التسويات السياسية للأزمات المشتعلة فـي «الشرق الأوسط»، وللحفاظ على المصالح الأميركية بالمنطقة، ولمنع انتشار خطر الإرهاب والتطرّف المسلّح الذي سيسود العالم فـي حال الفشل بهذه التسويات. فالصراعات الدموية الجارية حالياً لن تقف عند حدود دولة معيّنة بل ستؤدّي تفاعلاتها إلى مزيج من حروبٍ أهلية وإقليمية، وإلى تصاعد حركات الإرهاب فـي العالم كلّه، وإلى هدم كيانات وأوطان وليس فقط إلى تغيير حكوماتٍ وأنظمة.
لكنّ الولايات المتحدة هي أيضاً مسؤولةٌ بشكل كبير عمّا حدث ويحدث فـي العراق وفـي وسوريا وفـي بلدان أخرى بالمنطقة نتيجة السياسات الأميركية التي اتّبِعت منذ مطلع القرن الحالي، والتي استفادت منها إسرائيل فقط، وهي السياسات التي خطّطت لها جماعات أميركية-صهيونية منذ منتصف التسعينات بالتنسيق مع قيادات إسرائيلية، وجرى البدء بتنفـيذها عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ثمّ من خلال غزو العراق فـي العام 2003، ثمّ بدعم الحروب الإسرائيلية على لبنان وفلسطين، ثمّ بالمراهنة على إسقاط أنظمة عن طريق العنف المسلّح وبدعمٍ لجماعات دينية سياسية، وبالمساعدة على إشعال أزمات داخلية، وبتوظيف المشاعر الطائفـية والمذهبية فـي الصراعات مع الخصوم.
وهاهي واشنطن، ودول أخرى، تحصد نتائج سلبية على مصالحها بعدما زرعت بأيديها بذور هذه الأزمات المتفجّرة حالياً. لكن الخطر الأعظم هو على شعوب المنطقة وأوطانها، ممّا يتطلّب من الحاكمين والمعارضين وعياً وطنياً وقومياً يتجاوز حدود مصالح الحكومات والطوائف والمذاهب. وهو أمرٌ ما زال غائباً رغم أنّ النيران قد وصلت إلى «منازل وحدائق» أطراف عديدة.
إنّ الأمَّة العربية مثقلةٌ الآن بالجراح، والدم ينزف من شعوبها بفعل الصراعات الأهلية، والمخاطر الجمّة تحدق بمصير العديد من أوطانها، والتي لا تجد أمامها بوارق أمل، بل قلقاً كبيراً من المستقبل القريب وتداعيات الحاضر. فما حصل فـي العراق لم ينفصل لاحقاً عمّا جرى ويجري فـي سوريا من شرذمة للمجتمع المتنوع فـي تركيبته ومن هدمٍ للبناء الوطني الواحد، ولا عن الحرب فـي اليمن أو الفوضى السائدة فـي ليبيا بعدما جرى أصلاً تقسيم السودان إلى دولتين، ولا عن تصاعد العنف باسم حركاتٍ دينية، ولا عن إثارة الغرائز الانقسامية بين المذاهب الإسلامية. بل إنّ كلّ ذلك يؤكّد جدّية المشروع الإسرائيلي-الأجنبي الساعي لتفتيت ما هو أصلاً مقسّمٌ عربياً منذ قرنٍ من الزمن، ولإقامة دويلات «فدرالية» متصارعة فـيما بينها ومتفاهمة مع إسرائيل وقوى أجنبية، ترث «الرجل العربي المريض» كما ورثت اتفاقيةُ (سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي) مطلع القرن الماضي «الرجلَ التركي المريض».
بل قبل بداية هذا القرن الجديد، وطيلة العقود الأربعة الماضية، جرت ضغوط أميركيّة كثيرة من أجل التطبيع العربي مع إسرائيل قبل إنهاء احتلالها للأراضي العربية، كمدخل مطلوب لمشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وهو المشروع الذي جرى الحديث عنه علناً فـي مطلع التسعينات بعد مؤتمر مدريد للسلام، واوضحه شيمون بيريز آنذاك بما كتبه من دعوة لتكامل التكنولوجيّة الإسرائيليّة مع العمالة المصريّة مع المال الخليجي العربي فـي إطار «شرق أوسطي جديد» يُنهي عمليّاً «الهويّة العربية» ويؤسّس لوضع إقليمي جديد تكون إسرائيل فـيه بموقع القيادة الفاعلة.
لكنّ ما يحدث الآن فـي عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ ليس عن مشاريع ومؤمرات خارجية فقط، أو عن خطايا حكومات وأنظمة فحسب، بل هو أيضاً مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين والسياسيين والإعلاميين فـي وحل وهُوّة التفكير الطائفـي والمذهبي.
هي الآن مرحلة حاسمة ليس فقط فـي «تاريخ» العرب، بل أيضاً فـي «جغرافـية» أوطانهم وفـي «هويّتهم» وفـي مستقبل أجيالهم. فالمنطقة العربية بمعظمها تعيش الآن مخاطر التهديد للوحدة الوطنية كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما يزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.
شعوبٌ كثيرة فـي العالم خلُصت إلى قناعة بضرورة نبذ العنف بين بلدانها وداخل مجتمعاتها الخاصّة، وباعتماد النّهج الديمقراطي فـي الحكم والعلاقات بين المواطنين والأوطان، بينما تزداد للأسف ظواهر الانقسام والعنف الدّاخلي فـي أرجاء المنطقة العربية، ويستمرّ تهميش القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، ويتواصل استنزاف الجيوش العربية فـي معارك عربية داخلية، وتتعمّق المفاهيم و«الهويّات الإنشطارية» فـي كلّ أرجاء الأمَّة على حساب «الهويّة العربية» المشتركة!.
قد تنجح إدارة أوباما أو قد تفشل فـيما قد يكون صياغةً جديدة لـ«شرق أوسطٍ قديم»، لكن إلى متى يبقى العرب فـي حال المراهنة على الخارج لحلّ مشاكلهم بينما تنخر الصراعات والانقسامات فـي أجسادهم، وهل ستحدث فـي الأوطان العربية مراجعاتٌ لأوضاعها قبل فوات الأوان؟!
Leave a Reply