خليل رمَّال – «صدى الوطن»
بالرغم من تفشي الجرائم على أنواعها فـي مدينة ديترويت، وخصوصاً تلك المتعلقة بالدعارة والمخدرات، إلا ان المفاجأة هي أنَّ الفاعلين ليسوا مجهولين بل معظمهم من سكان الضواحي الراقية المحيطة بالمدينة المنكوبة، كما تشير آخر الإحصائيات الجنائية ونتائج العمليات السرية الخاصة التي تقوم بها الشرطة للقبض على الجُناة.
المفارقة الكبرى، هي أنَّ عالم الجريمة، التي مسرحها ديترويت، يشكل الاقتصاد السري الرديف والمتوازي مع الإقتصاد الشرعي للمدينة، وأن كليهما يعتمدان بشكل أساسي على أبناء الضواحي.
فهؤلاء يتدفقون إلى ديترويت لإنفاق المال ليس فقط على المباريات الرياضية والمسارح والمطاعم والكازينوهات بل أيضاً على بعض الأنشطة غير القانونية التي لا يشير اليها مروجو السياحة فـي المدينة، مثل الجنس والمخدرات، والتي تسبب الكثير من الألم والصداع والدعاية السلبية للمدينة منذ عقود.
فـي إحدى العمليات الخاصة التي خططت لها شرطة ديترويت، وقفت شرطية حسناء على شارع مزدحم فـي شرق المدينة وهي تتقمص دور مومس لجذب الزبائن الباحثين عن جنس رخيص.
قامت الشرطية بتمثيل دورها على أفضل وجه فاخذت تتبختر وتمشي مترنحة على الرصيف، لافتةً إنتباه سائقي السيارات المارة، الى أنْ اقترب منها رجل فـي منتصف العمر يقود سيارة «بيك آب» مقدِّماً عرضاً مالياً مقابل الجنس. والسعر: ١٥ دولاراً. وما أنْ لفظ الرجل عبارته حتى انقضت عليه سيارة تابعة لشرطة ديترويت كانت فـي الخفاء واقتاده عناصر الشرطة مخفوراً الى السجن، ليتبين فـيما بعد انه من سكان مدينة ساوثفـيلد. ثم استأنفت الشرطية، العملية على الرصيف وكأن شيئاً لم يكن، إلى أنْ بلغت «حصيلة» ليلة العملية، التي استغرقت ساعتين، إعتقال ستة مشتبهين، خمسة منهم يعيشون فـي الضواحي المحاذية، أما عروضهم المالية فكانت تتراوح بين ١٥ و٣٠ دولاراً.
«هناك الكثير من سكان الضواحي الراقية مثل بلومفـيلد هيلز ونوفاي ينظرون بازدراء إلى ديترويت، فنحن لدينا ما يكفـينا من المشاكل»، قال مايكل جونسون، الذي يعيش فـي منطقة مهجورة بشرق ديترويت بالقرب من مدينة غروس بوينت، وأضاف «لكن فـي الواقع إن سكان الضواحي يساهمون فـي هذه المشاكل». واستطرد جونسون، البالغ من العمر ٤٣ سنة، أنه «فـي بعض الأحيان يظن القادمون من الضواحي أنهم أذكياء فـيتحولون الى ضحايا».
وتنفذ شرطة ديترويت فـي الأشهر الأخيرة عمليات سريَّة منتظمة لكبح تجارة المخدرات والدعارة فـي المدينة. وأكد مساعد قائد الشرطة ستيف دولانت أنه من شهر آذار (مارس) وحتى أيلول (سبتمبر) الماضيين، تم إلقاء القبض على ٦٢٨ شخصاً أو تغريمهم من خلال عمليات سرية خاصة شملت أنحاء المدينة، بتهم تتعلق بممارسة ممارسة الدعارة والشراء أو الإتجار بالمخدرات. ومن بين هؤلاء كان ٢٧٥ متهماً فقط من ديترويت أما الباقي فتوزَّعوا على الضواحي.
الحصول على المخدرات وممارسة الجنس مع مومسات من الشارع، ليس أمراً محصوراً بديترويت، لكنه لا يتوفر بالسهولة نفسها فـي الضواحي حيث لا يمكن العثور على من يلبي هذه الطلبات فقط من خلال التجول فـي الأحياء السكنية كما هو الحال فـي ديترويت، حيث لا يحتاج الباحث عن هذه «الخدمات» سوى قيادة سيارته وسؤال المارة فـي الحي عن حاجاته.
وأوضح دولنت ان خوض الآتين من خارج ديترويت غمار الأحياء الأكثر خطورة فـي المدينة وتعاطيهم مع تجار الشوارع هما أكبر وصفة للمتاعب التي تنتهي فـي حالات كثيرة بشكل سيء. «فـي الكثير من الأوقات هؤلاء الناس القادمون من الضواحي لا يمتلكون حنكة ونباهة أولاد الشوارع وغالباً ما يتحولون إلى ضحايا جرائم»، أردف دولنت، وتابع «قد يتعرضون للسرقة والضرب، وحتى القتل أحياناً».
ولم يأتِ كلام نائب مساعد قائد الشرطة من فراغ. فمن بين ٢٩٨ ضحية من ضحايا جرائم القتل الإجرامية بالمدينة فـي العام الماضي، كان ٣٩ منهم (١٣ بالمئة) يعيشون خارج ديترويت، وفقاً للتقرير السنوي لمكتب الطب الشرعي لمقاطعة وين.
وفـي عام ٢٠١٣، كان النسبة ١٤ بالمئة، أما فـي العام الذي سبقه، فقد كانت نسبة الضحايا من سكان الضواحي ١٦ بالمئة.
تدفق مستمر
يقول الرقيب فـي شرطة المدينة أحمد حيدر، لصحيفة «ديترويت نيوز»، إن أحياء ديترويت السكنية المحاذية للمدن المحيطة بديترويت، تشهد نسبة مرتفعة من المشبوهين المعتقلين من الضواحي. وأشار حيدر الذي يرأس قسم العمليات الخاصة فـي «الدائرة ١٢» المحاذية لضواحي غروس بوينت الراقية «ما لا يقل عن ٨٠ بالمئة من الذين نعتقلهم بتهمة الدعارة هم من المقيمين فـي الضواحي. وتقريباً أغلبية الذين يشترون المخدرات هم من سكان الضواحي. هناك تدفق مستمر منهم.. يأتون واحداً تلو الآخر».
وقال تشارلز فلاناغان، الرئيس السابق لقسم مكافحة المخدرات لدى شرطة ديترويت وقائد الوحدات السرية الخاصة فـي شرق المدينة، انه على طول الجانب الشرقي، يعبر المراهقون من من غروس بوينت باتجاه ديترويت لشراء الهيروين والماريوانا.
وتحدث فلاناغان، الذي تقاعد فـي تموز (يوليو) الفائت، عن إحدى القضايا التي واجهها فقال «أمسكت بفتى وأجبرته على أنْ يرشدني إلى مَنْ مِن رفاقه كان يشتري الممنوعات. فما كان منه إلا أنْ أحضر لي الكتاب السنوي (يير بوك) لثانوية غروس بوينت الجنوبية وعلَّم على حوالي ٢٠ صورة لطلاب كان يعرف انهم كانوا إما يشترون المخدرات أو كانوا فـي عيادات إعادة التأهيل (ريهاب). وأكد فلاناغان «هناك الكثير من المدمنين مثل هؤلاء الفتية حيث يدفعهم الإدمان إلى سرقة مجوهرات والديهم ورهنها، ثم يأتون إلى ديترويت للحصول على الهيروين».
«لطالما أدى التنافس على أموال السكان القادمين من الضواحي إلى أعمال عنف» أفاد جونسون، الذي يعيش قرب تقاطع شارعي فـيليب وشرلفوي حيث قتل -الشتاء الماضي- الطالب من مدينة غروس بوينت بارك، بايج ستوكر.
واستأنف جونسون قائلاً «هناك زبائن كثر من الضواحي، وهم يجلبون الكثير من المال، وعندما يصب كل هذا المال هنا يقوم تجار المخدرات بالتقاتل ويطلقون النار على بعضهم البعض للحصول على نصيبهم من الثروة».
وتعتقد الشرطة ان التلميذ ستوكر وثلاثة مراهقين من مدينة غروس بوينت بارك وآخر من ديترويت عبروا الحدود إلى المدينة ليلة ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) الماضي لشراء أو تدخين الماريوانا عندما دخل فجأةً مسلح إلى سيارتهم الواقفة وفتح النار عليهم مما أدى إلى إصابة ثلاثة من ركابها وقتل ستوكر الذي كان عمره ١٦ عاماً. ولم تحل هذه القضية حتى الآن، ويقول المحققون إنهم تلقوا فقط بعض الإحداثيات القليلة على الرغم من رصد مكافأة قدرها ١٥٠٠٠٠ دولار لمن يدلي بمعلومات توصل الى إلقاء القبض على الجاني.
وفـي قضية أخرى عام ٢٠١٢، قُتل اثنان من المراهقين من مدينة وستلاند، هما جاكوب كودلا وجوردان بوبيش، بعد أن كانا قد دخلا بيتاً فـي ديترويت لشراء المخدرات، فتعرضا للسرقة وأُجبرا على الدخول إلى صندوق السيارة ثم أُطلقَت النار عليهما فـي حقل مجاور. وحكم على فريدريك يونغ (٢٦ عاماً) من ديترويت وفـيلاندو هانتر (٢٤ عاماً) من مدينة جاكسون، بالسجن مدى الحياة بعد إدانتهما فـي جريمة القتل المتعمَّد.
ويقول جونسون إن سكان الضواحي يجلبون المشاكل معهم والتي لها تأثير على الأسر والأحياء هنا، مثل قيامهم بممارسة الجنس مع المومسات فـي السيارات المتوقفة وفـي الأزقة، أو قيام مدمني المخدرات بترك الإبر وأنابيب المخدرات وراءهم». وأضاف «انهم لا يحاولون ان يستتروا أو يقومون بفعلتهم بالخفاء. ذلك لأن الاطفال هنا ليسوا أطفالهم الذين سيشاهدون كل هذا؛ إنهم أطفالنا نحن».
لغة الشارع
وفـي عملية دقيقة لشرطة المدينة، تابعتها صحيفة «ديترويت نيوز»، قام اثنان من التحريين السريين بالتسكع فـي شارع جانبي فـي واحدة من أكثر المناطق خطورة بديترويت. وفـي غضون ١٠ دقائق وصلت امرأة نحيفة تستقل سيارة «ميني فان» فضية من نوع «كرايسلر تاون آند كانتري» فتوقفت طالبة من التحريين إعطاءها «صبي واحد» وهو تعبير عامي مجازي فـي الشارع يعني حزمة من الهيروين بسعر ١٠ دولارات.
وعلى الفور قام طاقم دعم من الشرطة بالخروج من مخبئه، واعتقل الزبونة التي تبين أنها من سكان مدينة هايزل بارك. وبعد خمس دقائق، توقفت امرأة أخرى فـي سيارة «بونتياك» بيضاء، فطلبت كذلك حزمة من الهيروين، لكن المراة التي تبيَّن انها من مدينة فـيرنديل اشارت الى الهيروين باسمه الشوارعي الآخر: «طعام الكلب». «يسمونه طعام الكلب لأنه سيء للغاية لدرجة انك لا تطعم كلبك منه»، قال أحد التحريين السريين.
وكعملية الدعارة التي سبقتها أدت نتيجة العملية السرية إلى اعتقال ستة مشترين فـي حوالي ساعة ونصف. كلهم، باستثناء شخص واحد، من سكان الضواحي. وقد تمت مصادرة سياراتهم، واقتيدوا إلى مخفر «الدائرة ١٢» حيث تم الطلب منهم التوقيع على الأوراق التي تخيِّرهم إما بدفع رسم قيمته ٩٠٠ دولار لاسترجاع سياراتهم أو إحالة قضية مصادرة سياراتهم إلى المحكمة. وبعد التوقيع يُطلَقْ سراحهم.
وفـي حين كان يجري اقتياد الجناة الى المخفر، كان المزيد من سكان الضواحي يتدفقون الى الحي لشراء المخدرات من عناصر الشرطة السريين. فقد توقف «فان» أبيض مخصص لأعمال البناء والطلاء، وخرج منه راكبان فـي الثلاثينات من العمر وطلبا «أربعة صبيان وأربع فتيات» – و«الفتاة» هنا رمز شارعي للكوكايين. تم القاء القبض على الراكبين وهما من سكان ستيرلنغ هايتس، وقد ادعى أحدهما قائلاً «أنا لا أتعاطى المخدرات، كنت فقط أبحث عن أخي. أنا لم أطلب صبياً بل سألت عما إذا كان أحدهم قد رأى أي صبي أبيض هنا».
استهداف عنصري؟!
مع تدفق عدد كبير من سكان الضواحي البيض إلى داخل المدينة لخرق القانون، يقول بعض رجال شرطة ديترويت إنَّ شكوكهم تثار إذا رأوا شخصاً أبيض غير مألوف فـي حي يغلب عليه السود. فـي عام ٢٠٠٩، عقد رئيس شرطة ديترويت السابق وورن أفـينز (محافظ مقاطعة وين حالياً) مؤتمراً صحافـياً للإعلان عن نتائج عملية سرية (هيروين إكسبرس) جاءت على خلفـية رصد الشرطة لأعداد كبيرة من سكان الضواحي الذين يستقلون حافلات «سمارت» متوجهين الى ديترويت من أجل شراء الهيروين. وقال أفـينز إن الشكوك أثيرت بعد ملاحظة أن الاشخاص البيض الذين يغادرون الحافلات يتوجهون مشياً على الأقدام الى داخل الأحياء التي معظم قاطنيها من السود.
وقال «عناصر الشرطة كانوا يشهدون وجود عدد من الزبائن البيض قادمين إلى المنطقة التي تقطنها أغلبية من السود.. فمن الواضح أن شيئاً ما كان يحدث»، أكد أفـينز عندما أعلن عن «عملية هيروين إكسبرس».
وعندما سئل عما اذا كانت العملية تقوم على الاستهداف العنصري للبيض، رد أفـينز «أن هناك عوامل أخرى نعتمد عليها، مثل قيام المشتبه به بالذهاب الى منازل المخدرات المعروفة».
فلاناغان، الذي نظم تفاصيل «عملية الهيروين إكسبرس» التي أسفرت عن اعتقال ٧٠ من زبائن المخدرات من سكان الضواحي فـي غضون ثلاثة أيام، قال إنه «من الطبيعي للشرطة فـي أي مدينة الاشتباه بشخص لا يبدو انه يعيش فـي المنطقة».
وخلص إلى القول «يمكنك القول ان (العملية) لم تكن صحيحة سياسياً، ولكن عندما يلاحظ رجال الشرطة الذين يجوبون الشوارع منذ ٣٠ عاماً، مواكب من الرجال البيض وهم يجولون فـي أحياء تقطنها أغلبية من السود، فاننا سنفترض ان هؤلاء الناس لم يأتوا لتفقد أسعار المنازل مثلاً».
Leave a Reply