بعد 15 عاما على الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي عرفت بإسم «انتفاضة الأقصى»، ها هو المشهد الدموي ذاته يتكرر وسط محاولات سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإعادة الكرة فـي السيطرة على المسجد الأقصى وتهويده مع كامل مدينة القدس التي يريد لها المحتلون الصهاينة أن تكون عاصمة أبدية لدولتهم العبرية المزعومة.
فمنذ اتفاق أوسلو عام 1993 حاولت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كسب الوقت وخداع المجتمعين الدولي والعربي عبر محادثات السلام الماراثونية التي لم تفض إلا إلى المزيد من قهر الفلسطينيين وهضم حقوقهم السياسية والتاريخية، فـي الوقت الذي كانت تعمل فـيه بلا كلل أو ملل على قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات وتدعيم ترسانتها الأمنية التي تترصد أية محاولات من قبل السكان الأصليين للتعبير عن سخطهم ورفضهم للإحتلال واستمرار مصادرة حرياتهم المشروعة فـي ممارسة حياتهم الطبيعة على أرضهم بكرامة واستقلالية.
ولعل السلطات الاسرائيلية الغاشمة، قد رأت الوقت مناسبا لتغيير الواقع السكاني والجغرافـي فـي مدينة القدس، لاسيما وأن معظم الدول العربية تعاني على هامش ما يسمى بالربيع العربي- من مشاكل بنيوية تهدد هويتها الوطنية ومن صراعات داخلية حادة تزيد من عجزها وضعف تأثيرها السياسي. لكن ما لم يأخذه الإسرائيليون على محمل الجد، هو موقف الشعب الفلسطيني صاحب الأرض وإرادة أبنائه وآمالهم وحقهم فـي تقرير مصيرهم.. فكان أن اندلعت موجات واسعة من الاحتجاجات فـي العديد من المدن الفلسطينية، فـي القدس والخليل والضفة الغربية، والتي تطورت إلى حد دفع بعض المراقبين إلى وصفها بـ«الانتفاضة الثالثة»..
ولكن.. رب ضارة نافعة، فحساب الحقل الإسرائيلي لم ينطبق على حساب البيدر الفلسطيني، والأزمات والفوضى التي تثقل كاهل الدول العربية المؤثرة وفـي مقدمتها مصر والسعودية قد تصب فـي مصلحة الفلسطينيين الثائرين هذه المرة، خاصة إذا أعدنا التذكير بأدوار بعض الدول العربية والضغوط التي مارستها على الفلسطينيين من أجل تطويق وإيقاف الانتفاضتين الأولى الثانية.
ولعل هذه الحقيقة، هي ما تبرر الشراسة والوحشية الإسرائيلية فـي قمع المتظاهرين الذين ضاقوا ذرعا بسياسات دولة الاحتلال وعدوانها الاستيطاني المستمر إضافة إلى سياسات السلطة الفلسطينية التي أبدت التزاما غير محدود باتفاقات التنسيق الأمني مع الإسرائيليين ليزداد القمع والتضييق على الفلسطينيين فـي معاشهم اليومي ونشاطهم السياسي.
فقد بادرت سلطات الاحتلال إلى إبعاد العشرات من الفلسطينيين وتعزيز القوات الأمنية فـي القدس وفـي محيط الأقصى، ونشر القوات العسكرية فـي مناطق التماس والمدن الإسرائيلية، بالإضافة إلى قيامها بهدم منازل منفذي العمليات الهجومية ضد الإسرائيليين.. هذا فـي الوقت الذي ترتفع فـيه بعض الأصوات والأقلام العسكرية محذرة من الانفجار الهائل، فتحت عنوان «انتفاضة الشباب» كتب المعلق العسكري فـي صحيفة «يديعوت أحرونوت» أليكس فـيشمان أنه «لا حل هادئا لانتفاضة الشباب الجارية هنا منذ شهر».
وما يحسب لهذه الانتفاضة الثالثة، أن الشباب يشكلون عمودها الفقري، وبخاصة الأجيال التي ولدت فـي بداية تسعينيات القرن الماضي، أي فـي مرحلة اتفاق أوسلو، وهذا يعني أن الأجيال الجديدة من الفلسطنيين لم تعد تنطلي عليها مناورات الحلول السلمية، وجولات محادثات السلام الزائفة، لدرجة يبدو معها أن «حل الدولتين» الذي يشكل أساس معاهدة السلام الإسرائيلية-الفلسطينية قد أصبح فـي مهب الريح.
إن الأداء الوحشي لأجهزة الأمن والعسكر الإسرائيلي فـي قمع الاحتجاجات الفلسطينية ليس جديدا، فسجل الدولة العبرية مليء بعمليات القتل البربرية التي تستهدف المدنيين الفلسطينيين، ولكن الأهم فـي هذا السياق هو الروح الوثابة والإرادة الحديدية لدى الشبان الفلسطينيين الذين تجاوزوا قياداتهم الرسمية وقرروا مواجهة «الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر» بالسلاح بالأبيض..
وفـي الأثناء، وفـيما يستمر فلسطينيو الداخل بتسطير أبهى آيات المقاومة والتضحية، نتمنى على أبناء جاليتنا العربية فـي الولايات المتحدة أن لا يبخلوا بالتعبير عن تضامنهم، الذي هو أقل الإيمان، عبر الأساليب المتعددة والمتاحة على مواقع التواصل الاجتماعي، فـيسبوك وتويتر وانستغرام، إذ يمكنهم -مثلا- رفع الأعلام الفلسطينية على بروفايلاتهم، ومشاركة الأخبار والأفلام المصورة الواردة من الأرض المحتلة.
كما نرجو من جاليتنا فـي منطقة مترو ديترويت أن تبادر إلى المشاركة فـي جميع النشاطات والفعاليات الداعمة للشعب الفلسطيني فـي محنته الدموية المستمرة، والانضمام إلى مظاهرة يوم الأحد القادم أمام «مكتبة هنري» بديربورن وذلك لإيصال صوت قوي إلى الحكومة الأميركية التي ينبغي عليها القيام بدورها الأخلاقي والإنساني والسياسي بما يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني ويحقن دماء أبنائه..
Leave a Reply