تأتي تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الثلاثاء الماضي، باتهام مفتي القدس فـي ثلاثيثات القرن الماضي الحاج أمين الحسيني بتحريض أدولف هتلر على إبادة اليهود، فـي محرقة الهولوكست الشهيرة، كسابقة جديدة فـي الانحدار الأخلاقي للبروباغندا الصهيونية التي لم تتوقف عند استعطاف الغربيين وإثارة شفقتهم، وإنما تطلعت منذ تأسيس الكيان الصهيوني إلى تشويه صورة العرب عامة، والفلسطينيين خاصة، واستعداء حكومات الدول الغربية فـي أوروبا وأميركا وشعوبها ضد الشعب الفلسطيني.
الثلاثاء الماضي، وقف نتنياهو أمام المؤتمر الصهيوني الـ37 موجهاً سهام الاتهام إلى الحسيني، المتوفى فـي بيروت عام 1974، بأنه هو من أقنع الزعيم النازي أدولف هتلر بحرق اليهود.
قال نتنياهو إن محرقة الهولوكوست هي فكرة الحسيني. وأضاف إن هتلر لم يكن يريد إبادة اليهود بل كان ينوي طردهم فقط، وقال إن الحسيني ذهب الى هتلر فـي ألمانيا وقال له إنه إذا أقدم على طرد اليهود فإنهم سوف يأتون جميعهم الى فلسطين.
فسأل هتلر: «ماذا تريدني أن أفعل بهم؟»، فأجاب الحسيني «احرقهم»، على ذمة نتنياهو التي يبدو أنها واسعة جداً.
فسخافة هذا الادعاء ومجافاته للحقائق التاريخية، استدعت ردود فعل مستنكرة من السياسيين والمؤرخين على حد سواء. حتى أن مديرة مؤسسة «ياد فاشيم» لتأريخ الهولوكوست فـي القدس، المؤرخة اليهودية دينا بورات قالت بوضوح إن ادعاءات نتنياهو كاذبة.
وقالت بورات إن مفتى القدس كان قد زار ألمانيا فعلاً والتقى هتلر عام ١٩٤١، لكن الزعيم النازي كان قد قضى على مليون يهودي قبل ذلك التاريخ.
هذا التزييف الفاحش ليس غريباً عن ماكينة الدعاية الإسرائيلية، وليس جديدا بطبيعة الحال، خاصة وأن آلة الدعاية تلك، بدأت ببث وترسيخ أكاذيب وأضاليل منذ البدايات الأولى لتأسيس الكيان الغاصب، والتي أصبحت فـي جزء كبير منها إحدى دعامات «الحق اليهودي المزعوم فـي أرض فلسطين»، على قاعدة أن فلسطين هي أرض بلا شعب، وأن الله أعطى وعده للشعب اليهودي من أجل إقامة وتأسيس الدولة العبرية.
فمن غير المفاجىء إذن، أن يستمر قادة الكيان وزعماؤه السياسيون فـي نشر الادعاءات والأباطيل ولعب دور الضحية على طول فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي يشهد منذ حوالي شهر، حلقة جديدة فـي مسلسل المجازر البربرية المرتكبة بحق الفلسطينيين.
كما أنه من غير المتوقع أن يكف الإسرائيليون عن محاولاتهم التضليلية فـي تحميل بعض الزعماء الفلسطينيين والعرب أسباب «مأساتهم المفترضة»، خاصة تلك الأزعومة التي روج لها الصهاينة والتي تفـيد بأن العرب سوف يقومون بإلقاء اليهود فـي البحر.
لكن الجديد فـي هذا الموضوع، هو أن تكذيب نتنياهو يأتي -هذه المرة- من الدولة صاحبة المسؤولية السياسية والأخلاقية عن مقتل اليهود واضطهادهم فـي ألمانيا النازية، قبل وإبان الحرب العالمية الثانية. وقد فندت المستشارة إنجيلا ميركل تصريح نتنياهو بتحميله الحاج الحسيني مسؤولية المحرقة النازية.
وفـي السياق ذاته، أكد متحدث بإسم المستشارة ميركل فـي مؤتمر صحفـي: «بأن هذه الجريمة هي ضد الإنسانية (جريمة المحرقة) وهي مسؤولية ألمانيا كاملة، هي مسؤوليتنا.. وكل الألمان يعرفون تاريخ هوس القتل الإجرامي العرقي للنازيين الذي ارتكب تلك المحرقة».
وتابع بالقول: «إن هذه الحقيقة التاريخية يتم تدريسها فـي المدارس الألمانية لأسباب وجيهة، ولكونها حدث لا يجوز نسيانه، ولا أرى أي سبب لتغيير رؤيتنا للتاريخ بأي شكل».
أما نتنياهو، وأمثاله من زعماء وقادة الكيان، فلديهم ألف سبب وسبب يدفعهم لتزوير رؤيتهم وفهمهم للتاريخ وقلب حقائقه الثابتة، وبكل شكل ممكن، بدءا من «الادعاءات المقدسة» التي تزعم أن المسجد الأقصى قد تم بناؤه على أنقاض هيكل سليمان المزعوم، رغم تعدد الدراسات الأكاديمية والحفريات الأثرية (تحت أساسات الأقصى) التي تنقض هذا الزعم.
وفـي سياق آخر، لا يمكن إنكار العلاقة التي ربطت بين مفتي القدس الحاج أمين الحسيني وزعيم الرايخ الثالث أدولف هتلر والتي نسجت على خلفـية التحالفات الممكنة فـي ذلك الوقت، لاسيما وأن فلسطين كانت حتى ذلك الوقت تحت الانتداب البريطاني، فكان من الطبيعي أن يكون الحسيني فـي الخندق المقابل للمملكة المتحدة التي كانت تتزعم «دول التحالف» فـي حربها ضد ألمانيا.
ولو كان للحسيني أية توجهات سياسية أو دينية تبرر له قتل اليهود لكان الأولى أن يقوم بتحريض جماعات المقاومة الفلسطينية الأولى على إبادة اليهود الذين قدموا من كل أنحاء العالم للاستيطان فـي فلسطين، مع أن الحقائق التاريخية فـي هذا الإطار تثبت أن الثوار الفلسطينيين كانوا يشنون عملياتهم ضد العصابات الصهيونية دفاعا عن أنفسهم ومشروعهم الوطني، وليس بدافع الكراهية الدينية.
فـي الختام، يمكن أن نستذكر ما أدلى به كاتب عمود الرأي فـي صحيفة «نيويورك تايمز» توماس فريدمان حين قال: «لو أن اليهود جميعهم كانوا يعيشون فـي دول العالمين العربي والإسلامي لكان لدينا اليوم عدد أكبر من اليهود الحاليين بخمسة ملايين يهودي على الأقل»، فـي إشارة إلى أن مذابح اليهود فـي أوروبا قد أودت بحياة حوالي خمسة ملايين شخص من اليهود المقيمين فـي القارة العجوز.
فهل تكفي الكذاب نتنياهو هذه الحقائق الدامغة للتراجع عن كذبه؟ أم أن الحقد الشوفيني والعنصري لا يمكن تخطيه من حيث تعمى البصيرة ولا تعمى الأبصار.
Leave a Reply