بلال شرارة
ظاهرة تعم المجتمع اللبناني من أقصاه إلى أقصاه، وألمسها فـي الجنوب، لأني أرتاح إلى نفسي وإلى الناس هناك، فأحاول ان أسجل انطباعاتهم وأن أسبر اغوارهم، وأن أصل الى الغريب الذي يعيش فـي داخل كل انسان… الغريب الذي هجرته الحرب الأهلية من الريف الى المدينة، ثم أعادته حطاماً يبحث عن الماء والكلأ والاستقرار ولا يجد النعمتين المفقودتين: الصحة والأمان.
يتحول المواطن ذاتاً مشبعة بحب المعرفة، يحرك أصابعه على «الريموت كونترول» بحثاً عن خبر مفرح، أو يحرك نظره على الفنجان بحثاً عن غدٍ أفضل و… الناس تصدق ولا تصدق.
يتناقل الناس فـي الجنوب حكاية المنجّم المغربي الذي لا تخيب أقواله ولا تقع على الأرض، ويصبح الكل بصارين ومنجمين… وكذب المنجمون ولو صدقوا.
نادراً ما زارني والدي قبل وفاته فـي منزلي الذي كنت اقطنه على خطوط التماس فـي منطقة صفـير، وذات ليل أتى ونادى من «كعب» المبنى أن أحضر حالاً، «وأطيعوا والديكما ولا»، فأصعدني السيارة وقال أريد الآن مقابلة الوزير بري (آنذاك) لأمر هام، وتوجهنا سوياً، ووصلنا.
دون المرور بالاجراءات الروتينية استقبلنا الوزير بري فانتحى به والدي فـي زاوية وهمس فـي اذنه السر، والسر كما نقله ملاك الفنجان الحارس ان الوزير بري سيتعرض لمحاولة اغتيال فـي اليوم الفلاني وفـي الساعة الفلانية، وعلى يد فلان، ولما أخبر الوزير بري والدي أنه سيكون فـي التاريخ المحدد فـي الجزائر أصر عليه أن أذهب معه لأكون فـي عداد وفده وحدث ذلك.
فـي مطار الجزائر اتخذت اجراءات خاصة لدى وصول الوزير بري، ونقلته السلطات الى قصر الضيافة دون أن يسمح لنا بمرافقته، وكدت أصدق أن الرجل طار من بين ايدينا، لولا أنه اتصل بنا بعد أن كاد يقتلني القلق وذهبنا اليه وعدنا بالسلامة.
نفس الفنجان لم يتوقف عن الدوران -أقصد فنجان الزرارية- أنا اسمي من يحركه (علي جناني) وعندما أصادفه أقرأ البسملة قبل أن أمد يدي مصافحاً، والفنجان ذات يوم أخبر الأهالي أن فلاناً الأعمى سيفتح عينيه قبل شروق الشمس سهر الأهالي فـي الساحة وتساءلوا هل تحدث المعجزة ولم تحدث.
فنجان الزرارية دوار وقاتل، لا يمضي ليلة دون أن يقتل ملكاً أو رئيساً أو زعيماً، أو دون أن يسبب مجاعة أو أزمة اقتصادية، وأكثر المستلبين هم من المثقفـين والمتعلمين الذين يعتبرون أنفسهم فـي سباق مع الأحداث وأصيبوا بخيبات أمل سياسية فـيسارعون الى ملء منازلهم بالمونة.
الفنجان نفسه يدور فـي القرى، لك أن تسمع فتصدق تفرح أو تحزن أو لا تصدق، فهذا شأنك فالناس تحاول أن تستشف الأحداث.
أنا نفسي أصغيت إلى أبي عباس، بعد أن أغلقنا الباب تماماً استمعت اليه بشغف، فأنا أحبه من كل قلبي، وهو مثلي يبحث عن الخلاص وعن مخلص . فقد تعبنا من الحروب والاعتقال ونحمل علامات وطنية وقومية فارقة من زمن الحركات المطلبية والمقاومة ونريد أن نخلد الى السلام.
حدثني أبو عباس قال: فـي اليمن كنا، وفـي سوريا كنا، وفـي ليبيا كنا، وفـي العراق كنا، وفـي لبنان…
عيون أبو عباس لا تهدأ، وآلام المعتقل وجراحات الرصاصات التي حاولت اغتياله تجعله يكز على اسنانه حتى لا يفلت صرخة مكتومة؟! سيتم تقاسم الخليج… العاهل الاردني مهدد بالاغتيال… حرب اسرائيلية داخل فلسطين وعلى حدودها محاولة أطلسية للانزال فـي غزة.
ليس هذا كل ما قاله أبو عباس، فأنا أحتفظ بالكثير لنفسي، ولكن ألا يبدو ذلك منسجماً مع الواقع السياسي ومطابقاً للتحليل والاستنتاج؟
أنا ساكشف سراً، فكل صحفـي له مستشاره الفلكي، ولا أقصد الجهة الموجهة، أقصد الحاسة السادسة التي تتملكه ويحكم شيطان قلمه الذي يتحرك خلف الكلمات.
لم أطلب إلى أبي عباس أن يسأل ملاكه الحارس عني، فهو قد فعل ذلك من تلقاء نفسه، ولولا ثقة الملاك لما حمل أبو عباس وجعه مسافة الطريق والطوابق الخمسة على درج معتم. كان كمن يوصل رسالة، وفـي الرسالة أن أكون شديد الحذر… سره عميق، وكذلك سري فلربما التقيا قبل أن نلتقي.
كم نحن بحاجة لأن لا نضيع، وكم نحن بحاجة الى توسل الصبر على الأيام.
فـي لبنان هكذا الأمر، إلا أن هناك مسافة تفصل بين فنجان التبصير وسر(أبو عباس)، مسافة ثقة مفقودة وكلفة القلق!
سأجمع تعبي فـي سلال الغلة من كل وادٍ كلمة، فقد أصبحت أخاف أن أسجل فـي كلمة العدد موقفاً يقيم سداً بين أفكاري والقارىء فـي كل مكان، لذلك سأدع ابا عباس يرتاح نيابة عني وأفرد له أوراقي. فـي الختام حدثني أبو عباس قال: ربما قبل أن تغلق ملف الكلام سأوشوشك سراً ليس للاذاعة فاحزروا!
Leave a Reply