كمال ذبيان – «صدى الوطن»
عرسال من جديد تطل عبر تفجيرين استهدف الأول مقراً لـ«هيئة علماء القلمون» التي تضم مشايخ تابعين لـ «جبهة النصرة«، وهو فرع سوري لتنظيم «القاعدة» الدولي ويترأسه «أبو محمد الجولاني» الذي دعمه رئيس التنظيم الدكتور أيمن الظواهري فـي معركته ضد أمير «داعش» «أبو بكر البغدادي» الذي طالب بمبايعته خليفة للمسلمين، ونشبت «حرب وجود» بين التنظيمين التكفـيريين، سقط فـيها آلاف القتلى، والصراع بينهما إنتقل الى عرسال المحتلة من قبل الجماعات الإرهابية باعتراف وزير الداخلية نهاد المشنوق المنتمي الى «تيار المستقبل» الذي يعتبر هذه البلدة قلعة من قلاعه الشعبية التي تواليه، وفقد السيطرة عليها، بالرغم من حملات التضامن معها، والتحذير من محاصرتها من قبل «حزب الله»، والهجوم عليها لتهجير سكانها منها، وهم بأغلبيتهم من «الطائفة السّنّية»، ما ساهم ذلك فـي التحريض والإثارة المذهبية، وتسهيل إقامة بيئة حاضنة للجماعات الإسلامية المتطرفة، زادها وصول آلاف النازحين السوريين إليها، وإقامة مخيمات لهم، حيث فاق عددهم المئة ألف نسمة، أي ضعفـي وأكثر عدد أهالي عرسال، التي خطفها المسلحون من أبنائها، بالتواطؤ مع أفراد منها ذوي إنتماءات سلفـية كالشيخ مصطفى الحجيري (أبو طاقية) الذي يُروى عن سيرته أنه قاتل فـي أفغانستان مع المجاهدين.
فهذه البلدة البقاعية المتاخمة للحدود اللبنانية-السورية عند تخوم السلسلة الشرقية، والتي تبلغ مساحتها (مع جرودها» حوالي عُشر مساحة لبنان، إذ يبلغ طولها حوالي 90 كلم وعرضها نحو أكثر من 10 كلم، تحولت الى ملاذ آمن للجماعات الإرهابية، وهم قدموا إليها من بلدة القصيّر فـي ريف حمص بعد سقوطها بيد الجيش السوري و«حزب الله» فـي حزيران (يونيو) من العام 2013، ومن بلدات سورية أخرى مجاورة، ليتّخذ هؤلاء منها قاعدة إنطلاق لهم، فأقاموا فـيها ما يشبه «الإمارة الإسلامية» بزعامة أميرها مالك التلي الذي اختطف العسكريين اللبنانيين بمساعدة الشيخ مصطفى الحجيري (أبو طاقية)، فـي أثناء الهجوم الذي شنّته «النصرة» على مواقع ومراكز الجيش فـي عرسال ومخفر الدرك فـي البلدة فـي 2 آب (أغسطس) من العام 2014، فسقط حوالي 20 شهيداً للجيش بين ضابط وجندي إضافة الى عدد من الجرحى، وأسر حوالي 35 عسكرياً، بين جيش وقوى الأمن الداخلي، وقد تمّ اختطافهم من المخفر وشوارع عرسال، وأمام مرأى الأهالي وجرى تصوير العملية بعد نقلهم الى منزل «أبو طاقية» الذي أكّد أنهم بضيافته، وهم بأمان فـي عهدته، لكنه تنكّر لإلتزاماته، وبتواطؤ مع الإرهابيين سلّمَ العسكريين الذين كانوا فـي حوزته، كما تمكّن مناصرون لـ«داعش» من اختطاف 11 عسكرياً من الجيش وسلموا الى التنظيم.
هذه الأحداث أخرجت عرسال من سلطة الدولة التي نشرت الجيش على تخومها وعند المراكز المتقدمة فـي مواجهة المسلحين فـي الجرود، حيث أقفلت المعابر عليهم، كما فرضت طوقاً على مخيمات النازحين الذين كان لهم الدور الأول فـي مهاجمة مراكز الجيش، كما فـي زرع العبوات لدورياته، وهو ما دفع بوزير الداخلية الى المطالبة بنقل المخيمات الى أماكن أخرى، لأنها بؤر توتر وأساس المشكلة، وأن مَن فـيها، هم أهالي المسلحين فـي الجرود.
وحصل التفجير فـي مقر «هيئة علماء القلمون» التي أنشأت محكمة شرعية، كانت تطلق الفتاوى بالإعدام، كما بالسجن، إضافة الى عقد الزواج وإبرام الطلاق، بما يؤكّد عدم وجود للسلطة اللبنانية التي امتنعت عن إتخاذ قرار بتحرير عرسال من الإرهابيين، وهو ما كان على الجيش أن يفعله بعد الإعتداء عليه من قبلهم، لكن العامل المذهبي لعب دوره، ولم يتحمّل رئيس الحكومة تمام سلام و«تيار المستقبل»، أن يهاجم الجيش عرسال السّنّية، فـي وقت يُسمح لـ«حزب الله» بمشاركة النظام السوري فـي القتال ضد «المعارضة السورية»، التي يساندها العرساليون، وفق ما يقول «المستقبل» الذي بتساهله مع حركة النزوح السوري خلق أزمة وطنية داخلية، تتسبب بتغيير ديمغرافـي، كما فـي بطالة لبنانية، وأعباء مالية على الدولة التي تنوء بدين عام، ثم فـي عدم استيعاب المؤسسات التربوية والصحية لمليون ونصف مليون نازح، مع غياب دولي للمساعدات للبنان.
ولم يكن تفجير مقر الهيئة، ثم دورية للجيش وقوى الأمن الداخلي فـي اليوم الثاني، منعزلاً عما يجري من تطورات عسكرية فـي سوريا، بعد التدخل العسكري الروسي، ومحاولة الجيش السوري -بمساعدة الحلفاء- تغيير المعادلة العسكرية على الأرض، من خلال التقدم الذي يحرزه فـي ريف حماه وريف إدلب وريف حلب، وفـي الغوطة الغربية لدمشق، وفـي درعا وريف القنيطرة فـي الجنوب، وهو ما حمل تنظيم «داعش» الذي تتركز عليه العمليات العسكرية، مع فصائل أخرى، الى محاولة السيطرة الكاملة على عرسال، بطرد «النصرة» منها، أو إخضاعها لقراره، كما فعل فـي مناطق أخرى، فكان تفجير مقر الهيئة رسالة دموية لإعلان المبايعة، اتبعها برسالة ثانية للجيش، أن يبتعد عن مسرح العمليات وينسحب منها، وقد سبق تفجيري عرسال، اقتحام مواقع للجيش السوري والدفاع الوطني فـي بلدة مهين فـي ريف حمص، وإنزال خسائر بشرية وفـي العتاد فـيها، ثم التقدم نحو بلدة صدد للسيطرة عليها والتمدد نحو جبال القلمون والتواصل مع عرسال، ومن ثمّ العودة الى القصيّر، لإسقاط المنطقة والتمدد نحو البقاع الشمالي والهرمل ومنهما الى الشمال اللبناني، وصولاً الى سواحله.
هذا السيناريو، وضعه «داعش» مع حلفاء له، وحاول تطبيقه لكنه فشل، وقد زاد من محاولاته بعد سيطرته على تدمر وبات قريباً من حمص، وكل ذلك من أجل تأمين منفذ له على البحر، وهو ربما الذي ساهم فـي استعجال التدخل العسكري الروسي، ليحمي قاعدته البحرية، ويبقي له نافذة على البحر الأبيض المتوسط، ومنع سقوط الساحل السوري الذي مازال طريقه من اللاذقية سالكة بإتجاه دمشق عبر حمص، وهو ما يعطي الرئيس الأسد أوراق قوة، أنه يسيطر على المناطق الجغرافـية الأساسية التي تضم النسبة الديمغرافـية الأكبر من الشعب السوري الذي يوالي النظام وأعاد الثقة بالرئيس الأسد فـي إعادة إنتخابه رئيساً للجمهورية لولاية تمتد لسبع سنوات وتنتهي فـي العام 2021، حيث الخلاف بين موسكو وطهران من جهة وأميركا والسعودية وفرنسا وحلفاء لهم، هو حول رحيل الأسد، أو تنحيه عن الحكم بعد مرحلة إنتقالية.
فما حدث فـي عرسال، هو امتداد للمعركة العسكرية فـي سوريا، وقد تمكّن الجيش اللبناني من داخل الحدود اللبنانية، من إقامة خط دفاع قوي منع من خلاله تقدم المسلحين من جرود البلدة، وقد أوقعت كمائنه خسائر بشرية فـي كل مرة كان المسلحون يحاولون التقدم نحو عرسال، بعد إقفال كل المعابر إليها، حيث بات المسلحون فـي موقع المحاصر بعد سيطرة الجيش السوري و«حزب الله» على جبال القلمون بالكامل، إلا من بعض الأماكن القليلة، وكذلك على الزبداني، فلم يعد أمام الإرهابيين إلا التقدم من عرسال بإتجاه رأس بعلبك ومشاريع القاع، لكن الجيش تصدى لمحاولاتهم المتكررة.
وإن محاولة الجماعات الإرهابية الرد على خسائرها فـي الداخل السوري، عبر عرسال، ومحاولة نقل المعركة إليها، وفتح ثغرة فـي الجدار العسكري اللبناني، للتمدد نحو مناطق تشكّل بيئة حاضنة لها، فقد باءت بالفشل، مع التعزيزات التي تلقاها الجيش الذي يؤكّد قائده العماد جان قهوجي دائماً، أن الإرهابيين لن يتخلوا عن مشروعهم، وهم سيحاولون فـي كل مرة يستطيعون أن يسيطروا على لبنان، ويقيموا فـيه إمارتهم، ويكون لهم ممر الى شاطئه، وهو أمر يصعب تنفـيذه من قبلهم، لأن الجيش فـي جهوزية تامة، وينشر ألويته وأفواجه على طول الحدود من الشمال الى البقاع، وقد تصدى لعشرات محاولات التقدم، وصدّهم الجيش وأوقع فـيهم خسائر فادحة، وهو استهدف أماكن تجمعاتهم العسكرية، كما مراكز اجتماعاتهم القيادية، حيث أصاب من قادتهم مقتلاً، وهو ما رفع من معنويات العسكريين، وأصاب المسلحين بالهزيمة، وقد تأثر بهذه النكسات النازحون فـي المخيمات والمتعاملين من أبناء عرسال مع المسلحين، إذ باتت حركتهم تحت الرصد والمراقبة، واعتقل الجيش العشرات من الإرهابيين على حواجزه وكمائنه وفـي مداهماته للمخيمات، أو أثناء تنقل هؤلاء الى مناطق أخرى.
فعرسال واحد كانت ضد مراكز الجيش للسيطرة على البلدة من داخلها، وعرسال اثنان، هي معركة تصفـيات بين الجماعات الإرهابية لمن يسيطر عليها «داعش» أو «النصرة»، حيث بات أهاليها مختطفـين من قبل هذين التنظيمين الإرهابيين، ولمن تكون الأمرة لأحدهما على البلدة وأبنائها الذين لم يعودوا يملكون قرارهم الذي سلموه بإرادتهم للمسلحين، أو فُرض عليهم أن يسلموه ممن بايعوهم للإستفادة مالياً أو أن يكون له موقع نفوذ، ومن هؤلاء رئيس البلدية علي الحجيري المعروف بأنه يوالي كل مَن تكون له السيطرة تأميناً لمصالحه، وهو بعد أن باع قراره، أصبح تحت رحمة المسلحين الذين أعدموا أكثر من عشرين شخصاً من أهالي عرسال، لأنهم رفضوا الولاء لهم، وهم خسروا أراضيهم التي كانوا يعتاشون منها فـي الكسارات والمقالع وصناعة الحجر، إضافة الى المشاريع الزراعية التي تدر مئات مليارات الليرات اللبنانية لهم، فلم يعد لهم من باب رزق، إذ صودرت آلياتهم الزراعية وجرافاتهم، كما حوصروا فـي بلدتهم بعد أن أقفلت عليهم طريق الحدود مع سوريا التي كانت تنشط عبرها أعمال التهريب، ولم يعد عبورهم امنا الى بلدات الجوار التي جمعتهم بها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وغياب الإنماء المتوازن، كما وحدتهم فلسطين والعروبة، التي غابت عن بعض مَن أمسك بقرار عرسال، لحساب لغة التكفـير ورفض الآخر.
عرسال 2، محاولة فتح معركة جديدة، امتداداً لمعارك الداخل السوري، التي يتقدم الحسم العسكري فـيها لصالح الجيش السوري وحلفائه، فكان التفجيران بلاغات عسكرية للجماعات الإرهابية.
Leave a Reply