وليد مرمر
مرة أخرى تعلو قعقعة اللوم واللوم المضاد من رجال تبوؤوا أهم مراكز السلطة أبان حروب أميركا الأخيرة. فالآن، وبعد أن تمخضت السياسة الخارجية الأميركية تجاه العراق عن تدمير حضارة وتاريخ وإقتصاد وجغرافـيا هذا البلد، يتسابق الجميع على الهرب من المسؤولية وإلقائها على الآخر. ففـي مذكراته التي صدرت الثلاثاء الماضي بعنوان «القدر والقوة» Destiny and Power صب جورج بوش الأب جام غضبه على نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني والذي أيضاً تولى وزارة الدفاع خلال رئاسة بوش الأب:
«لقد أصبح تشيني كثير التصلب، مذعنا للرجال المتعصبين الذين يريدون أن يحاربوا من أجل أي شيء والذين يستعملون العنف للحصول على مبتغانا فـي الشرق الأوسط».
لكن «بوش ٤١» لم يخبرنا لماذا اختار تشيني وزيراً للدفاع إن كان هذا هو رأيه فـيه؟! أو لماذا انتظر حتى نهاية عهد «بوش ٤٣» حتى يدلي بدلوه هذا؟
أما رامسفـيلد فقد انتهره بوش الأب بشدة حينما قال «أظن أنه خدم الرئيس (بوش ٤٣) بشكل سيء. أنا لم أكن قريباً منه على أية حال. هناك قلة تواضع… عدم فهم تفكير الشخص الأخر… إنه صارم، يشتري العداوات وأظنه قد دفع ثمن ذلك».
كيف أجاب رامسفـيلد على اتهامات بوش الأب له؟ قال لمحطة «أن بي سي» إن «بوش قد هرم»!
ممم.. عجباً.. نعم قد يكون رامسفـيلد محقا فـي شأن خرف بوش، الذي قد نسي حتما أن إدارة الرئيس رونالد ريغن الذي كان بوش نائبا له، قد استعانت بمهارات رامسفـيلد فـي ثمانينات القرن الماضي! هل فات بوش أن رامسفـيلد هذا هو من صافح الدكتاتور صدام حسين عام ١٩٨٣ إبان كان الأخير يستعمل الأسلحة الكيمياوية يوميا فـي حربه ضد إيران؟ وهو من كان عراب تطبيع العلاقات مع صدام خلال الأعوام ١٩٨٠-١٩٨٨، أي طيلة الحرب العراقية الإيرانية وفـيما كان «بوش٤١» نائبا للرئيس ريغن! وطبعا سبق هذا التطبيع إزالة اسم العراق من لائحة وزارة الخارجية للدول التابعة للإرهاب فـي شباط ١٩٨٢، أي فـي خضم استعمال العراق اليومي لمخزونه الكيمياوي ضد إيران!
لقد سهلت الولايات المتحدة حسب وثيقة نشرت فـي حزيران (يونيو) ٢٠٠٣ تحت الرقم، NSDD 139 بتاريخ الخامس من نيسان (أبريل) 1984، سهلت تصدير مواد بيولوجية بما فـيها مادة «الأنتراكس» أو الجمرة الخبيثة، إضافة لمواد هامة لصناعة الأسلحة الكيمياوية، فضلا عن قنابل عنقودية بيعت فـي تشيلي عبر شركة محلية لصالح الـCIA قبيل تصديرها للعراق.
كما وفرت الولايات المتحدة معلومات استخباراتية للنظام العراقي رغم علمها الدقيق باستعمال العراق لغاز الأعصاب فـي الحرب.
ريك فرانكونا، العقيد المتقاعد فـي الجيش الأميركي والذي خدم فـي السفارة الأميركية ببغداد من عام ١٩٨٧ حتى عام ١٩٨٨ قال لصحيفة «الغاديان» البريطانية: «كنا نعلم بأن العراق كان يستعمل غاز الخردل خلال الحرب. لكن هذا لم يكن بضراوة غاز الأعصاب… لقد بدأوا باستعمال الـ«تابون» وهو غاز أعصاب، منذ ١٩٨٣ أو ١٩٨٤ ولكن فـي إطار محدود. كانوا ربما ما زالوا يتعلمون استعماله. وفـي ١٩٨٨ طوروا الـ«سارين».
فـي عام ١٩٨٣ كانت بحوزة وزير الخارجية آنذاك، جورج شولتز، تقارير استخباراتية حول استعمال العراق اليومي للأسلحة الكيمياوية. لكن هذا لم يردع رونالد ريغن بعد أقل من شهر من توقيع أمر سري يأمر إدارته بأن تقوم بكل ما يلزم لكي تمنع العراق من خسارة الحرب. وفـي كانون الأول (ديسمبر) من نفس العام انتدب ريغن رامسفـيلد كمبعوث للشرق الأوسط والتقى صدام وأخبره رغبة الولايات المتحدة بمساعدة نطامه وبتطبيع تام للعلاقات معه.
هوارد تايتشر، وهو خبير بالشؤون العراقية فـي إدارة ريغن، أقر فـي شهادة له عام ١٩٩٥ أن مدير الـCIA وليام كايسي استعمل خدمات شركة «كاردوين» التشيلية لإرسال قنابل عنقودية لاستعمالها ضد هجمات «الأمواج البشرية» الإيرانية.
وفـي تحقيق للكونغرس عام ١٩٩٤ تأكد أن عشرات المواد البيولوجية، بما فـيها أنواع مختلفة من «أنثراكس» أو الجمرة الخبيثة، كانت قد صدرت للعراق عبر شركات أميركية مرخصة من قبل وزارة التجارة.
كما باعت شركة «داو» الكيمياوية عام ١٩٨٨ما قيمته مليون ونصف من المبيدات الحشرية للعراق رغم الشكوك بأنها سوف تستعمل فـي حرب كيماوية.
دايفـيد نيوتن، سفـير أميركا السابق فـي بغداد قال: إن سياستنا الخارجية كانت محقة. كنا قلقين من أنه لا ينبغي للعراق أن يخسر الحرب مع إيران لأن هذا سيشكل تهديدا للسعودية والخليج..».
لقد أخذت إدارة ريغن قرارا يتعلق بالأمن القومي يحمل «رقم ١١٤» بتاريخ 26 تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٨٣ بما يخص مساعدة صدام فـي حربه ضد إيران ،وهو من القرارات القليلة التي تخص السياسة الخارجية والتي ما تزال مصنفة سريا. القرار، حسب مسؤولين سابقين فـي الإدارة الأميركية ينص على أن الولايات المتحدة سوف «تفعل كل ما هو ضروري وقانوني لتجنيب العراق خسارة الحرب».
فـيما أعادتنا أقوال «بوش ٤١» لتذكر بفضيحة الدعم المطلق الذي وفرته الولايات المتحدة لدكتاتور العراق نتساءل: لم لا تغشى لحظات التخلي ومحاسبة الذات وإعادة التموضع إلا من أصبح خارج السلطة وبلا حول ولا قوة؟!
Leave a Reply