صبحي غندور
«الهويّة الثقافـية العربية»، كلغة وثقافة، كانت موجودة قبل وجود الدعوة الإسلامية، لكنّها كانت محصورة بالقبائل العربية وبمواقع جغرافـية محدّدة.. بينما العروبة، كهويّة انتماء حضاري ثقافـي، بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّادٍ عرب..
أمّا «العروبة الحضارية» فهي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافـية، إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك فـي صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي خرجت الهويّة الثقافـية العربية، بفعل الدعوة الإسلامية، من الارتباط بالعنصر القبلي أو الإثني، ومن محدودية البقعة الجغرافـية (شبه الجزيرة العربية)، إلى دائرة تتّسع فـي تعريفها لـ«العربي»، لتشمل كل من يندمج فـي الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية أو الدينية أو الإثنية.
وفـي ظلّ هذا التعريف، ينضوي معظم من هم عربٌ الآن ولم يأتوا من أصولٍ عربية من حيث الدم أو العرق. فقد تفاعلت الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) طيلة أكثر من 14 قرناً مع الثقافة العربية باعتبارها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق، ولا تتناقض مع أصول هذه الأقليات الإثنية، كما هو الأمر أيضاً على صعيد الأقليات الدينية فـي المنطقة العربية التي اعتبرت نفسها كجزءٍ من الحضارة الإسلامية رغم الاختلاف الديني القائم.
إنّ الثقافة العربية هي المتبقّى الوحيد الآن كجامع مشترك بين العرب. والخطر عليها كوجود ليس فقط حصيلة ما يحدث الآن فـي بعض الأقطار العربية، كما أنّ هذا الخطر لم يبدأ فقط مع وجود الاحتلال الأوروبي للمنطقة فـي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بل هو بدأ مع سقوط الريادة العربية للعالم الإسلامي، وتسلّم السلطة العثمانية لدورٍ كان أوْلى بالعرب الحفاظ عليه فأخذه منهم الجيش الانكشاري.
من هنا كانت بداية تدهور حال الثقافة العربية، بغضّ النظر عمّا حملته هذه الثقافة (بعد انتهاء دولة الخلفاء الراشدين) من مفاهيم بعضها تناقض مع المضمون الأصولي للقيم الإسلامية. وقد انتهت قرون السيطرة العثمانية بمحاولة تتريك العرب فـي مطلع القرن العشرين، ثم ذهب الأتراك إلى ديارهم ليعلن كمال أتاتورك تخلّي الأتراك أيضاً عن لغتهم وثقافتهم وتحويلها إلى الأحرف اللاتينية ونُظُم الحياة الغربية.
وكان من المؤمّل لدى الورثة الإنكليز والفرنسيين للتركة العثمانية، أن يتخلّى العرب أيضاً عن لغتهم وثقافتهم وأن يستبدلوها (كما فعلت تركيا/أتاتورك) بالأحرف اللاتينية وباللهجات المحلية وبالثقافات الغربية، لكن الترابط العضوي بين لغة العرب ولغة القرآن الكريم، بين الوعاء الثقافـي للعرب وبين مضمونه الحضاري الإسلامي، منع ذلك بشكلٍ كبير، إضافةً إلى الدور المهم الذي قام به العديد من الأدباء العرب، وكان معظمهم من المسيحيين العرب، الذين كانوا يحرصون على الثقافة العربية ويشتركون مع المسلمين العرب فـي صنع الحضارة العربية الإسلامية.
إنّ ظاهرة الانقسامات الطائفـية والإثنية التي تعيشها الآن البلدان العربية هي تعبيرٌ عن عمق مشكلة غياب الفهم الصحيح للدين وللهويّة الوطنية والقومية، وبالتالي فإنّ مسألة «الهويّة» هي قضية معاصرة عنوانها كيفـيّة المحافظة على الهويّة الوطنية الواحدة المشتركة، فـي مقابل محاولات الفرز الطائفـي والمذهبي والإثني داخل الأوطان العربية.
للإنسان، الفرد أو الجماعة، هويّاتٌ متعدّدة، لكن الهويّات ليست كأشكال الخطوط المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى، أو التي تفرض الاختيار فـيما بينها، بل هذه الهويّات المتعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها، والتي فـيها (أي الدوائر) «نقطة مركزية» هي الإنسان الفرد أو الجماعة البشرية. هكذا هو كلّ إنسان، حيث مجموعةٌ من الدوائر تُحيط به من لحظة الولادة، فـيبدأ باكتشافها والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره: من خصوصية الأم إلى عمومية البشرية جمعاء.
مشكلتنا نحن العرب أنّنا نعاني، لحوالي قرنٍ من الزمن، من
صراعاتٍ بين هُويّاتٍ مختلفة، ومن عدم وضوح أو فهم للعلاقة بين هذه الهويّات المتعدّدة أصلاً.
إنّ مفهوم -العروبة- كهويّة يعني حالةً مشابهة للهوية الأميركية الجامعة التي تضمّ الآن تحت لوائها العديد من الأصول الثقافـية والإثنية، فـيقال هذا «أميركي-إيرلندي» أو «أميركي-إفريقي».. ولذلك يمكن القول الآن فـي بلادنا العربية إنّ هذا عربي من أصول مصرية آو شامية أو مغربية (من الناحية الجغرافـية) أو يقال هذا عربي من أصول أشورية أو كردية أو أمازيغية (من الناحية الإثنية)، لكن كل هؤلاء العرب يشتركون فـي ثقافةٍ عربية واحدة تُظلّل أصولاً إثنية وثقافـية متعدّدة. فهذا هو المفهوم السليم لثوب العروبة الحضارية، والذي ساهم بخيط نسيجه من هم من أصول عرقية عربية وغير عربية لكنّهم اشتركوا جميعاً فـي صنع الحضارة العربية الإسلامية، وأقاموا فـيما بينهم ثقافةً عربيةً مشتركة واحدة.
لكن رغم أنّ معظم شعوب العالم اليوم قد تكوّنت دوله على أساس خصوصياتٍ ثقافـية، فإنّ الثقافة العربية لا يُعبّر عنها بعدُ فـي دولةٍ واحدة. ونجد الآن داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافاتٍ إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغيين، وكما جرى فـي جنوب السودان) بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة «الدولة الواحدة». فالموجود الآن من الدول العربية هو أوطان لا تقوم على أساس ثقافاتٍ خاصّة بها، بل هي محدّدةٌ جغرافـياً وسياسياً بفعل ترتيبات وظروف مطلع القرن العشرين التي أوجدت الحالة الراهنة.
وصحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلدٍ عربي، لكن هناك أيضاً أزماتٌ يشترك فـيها كلّ العرب أو تنعكس آثارها على الكل، وأنّ «الرؤية العربية المشتركة» لأزمات الأمّة تتطلّب أولاً التسليم بوجود «هويّة عربية» مشتركة، وبحسم المفاهيم الخاصّة بها وبعلاقتها مع كلٍّ من «الهُويّتين» الدينية والوطنية.
إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحّية فـي مجتمعاتٍ تقوم على التعدّدية وعلى الاختلاف القائم فـي البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلافٍ عنفـي وصراعاتٍ سياسية دموية يعني تناقضاً وتصادماً مع الحكمة فـي الاختلاف والتعدّد، فـيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالفٌ للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.
إنّ تراجع «الهُويّة العربية المشتركة» يؤدّي إلى تفكّك مفهوم «الهُويّة الوطنية»، وإلى طغيان التسميات الطائفـية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية. وفـي هذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي فـي كلّ بلدٍ عربي، ولذا تصبح «العروبة» لا مجرّد أساس لهويّة عربية مشتركة ولبناء مستقبل عربي أفضل فحسب، بل أيضاً سياجاً ثقافـياً واجتماعياً ضدّ التدخّل الأجنبي، ولحماية الوحدات الوطنية فـي كلّ بلدٍ عربي.
إنّ العرب هم أمَّةٌ واحدة فـي الإطار الثقافـي، وفـي المضمون الحضاري، وفـي المقاييس التاريخية والجغرافـية (اشتراك فـي عناصر اللغة والثقافة والتاريخ والأرض)، لكنّهم لم يجتمعوا تاريخياً فـي إطارٍ سياسيٍّ واحد على أساس العروبة فقط. فالعروبة قائمة وجوداً كثقافة لها خصوصيتها قبل الإسلام، ثم كحضارة من خلاله وبعده، لكنّها لم تتجسّد سياسياً بعدُ كأمَّةٍ واحدة، فـي إطار كيانٍ سياسيٍّ واحد، على أساس مرجعية العروبة فقط. فالأرض العربية كانت تحت سلطة واحدة فـي مراحل مختلفة من التاريخ، لكن على أساس مرجعية دينية إسلامية -ما جرى تسميته بالخلافة- وليس على أساس عربي قومي.
وللوصول إلى مشروع الكيان العربي الواحد أو الاتحادي، تتوجّب الأساليب المرحلية شرط قيامها جميعاً على أساس ديمقراطي فـي الداخل، وسلمي حواري فـي العلاقة مع الطرف العربي الآخر. من هنا أهمّية التوافق العربي على ضرورة المرونة فـي كيفـيّة الوصول إلى كيان دستوري سياسي يعبّر عن وحدة الأمَّة، وضرورة الدعوة السلمية ورفض الابتلاع أو السيطرة أو الهيمنة من وطنٍ عربي على آخر..
Leave a Reply