يصعب على الكاتب أن يتجرد من تلك الرابطة الحميمية المتجذرة في ذاكرته، عندما يتحدث الى صديقه القديم، الذي صار طبيبا، ثم رجل أعمال عالميا، بعد افتراق وانقطاع دام أكثر من ثلاثة عقود.
وتزداد اشكالية التجرد تعقيداً عندما يتعلق الأمر بمرحلة ريعان الشباب ومقاعد الدراسة في “مدرسة عبداللطيف سعد العالية الرسمية”، ثم في ثانوية بنت جبيل التي شهدت على بواكير نضجنا السياسي، على أنغام صعلوكي ذلك الزمن الجميل الثنائي الشيخ امام والشاعر أحمد فؤاد نجم. هناك كانت “انتفاضتنا” الطلابية الأولى ضد الرجعية والاستعمار والاحتلال، وهناك نمت حركاتنا المطلبية في وجه ما كان يحلو لنا وصفه بـ”دولة الحرامية”.
وكنا نترجم وعينا السياسي الطارئ شغبا و”مرجلة” على ادارة الطيب الذكر المربي الكبير الراحل الأستاذ محمد جميل صالح، الذي “اكتشفنا” بعد سنين طويلة، أنه كان أكثر وطنية وحكمة منا جميعا عندما كان يدعونا بالحسنى حينا وبالحزم أحيانا الى الاهتمام بدراستنا كأنجع سبيل للارتقاء بأوضاعنا الاجتماعية والسياسية الى مستويات أفضل.
بعد أكثر من ثلاثين عاما، قدر لي أن ألتقي في ديربورن الصديق القديم ورفيق الدراسة وجيه حمقة.
هو الآن الدكتور وجيه، طبيب الأسنان المتخرج من جامعة بوخارست الرومانية، لكن أيضا، رجل الأعمال العالمي الذي يتربع على عرش “امبراطورية صغيرة” كما يصفها في لقائي معه والتي تتوزع على قارات ثلاث (افريقيا وأوروبا وأميركا الشمالية).
الانطباع الأول الذي يساعدك محدثك على بلورته سريعا هو أن الثروة لم تحدث في جوهره أية خدوش. إنه وجيه حمقة هو هو، بعفويته وسجيته المحمولتين على ثقة بالنفس وصراحة بكر في تناول الموضوعات التي تهم أهل بلدته وأبناء وطنه.
يحدثك عن الحاضر، لكن دائما، ربطا بماض دائم الحضور لديه، بكل ألوانه القاتمة وظروفه القاسية، واليه يعزو نجاحه وتألقه في عالم الأعمال، ليس “لأنني ولدت وفي فمي ملعقة ذهب، بل لأنه كان بقساوته وعبره المعلم الأول والمحفز الرئيس للانطلاق في فضاءات جديدة بحثا عن عيش أكرم وحرية أرحب”.
والدكتور وجيه قليل التحدث عن نفسه، كثيره عن مجتمعه الذي تخيم قضايا ناسه على اهتمامه. فهو لم يعد لديه “حلم شخصي” لتحقيقه. هو حقق ما كان والده الراحل المرحوم “أبو وجيه” يصبو الى أن يراه فيه وفي اشقائه وشقيقاته.
فالعائلة المكونة من أربعة أشقاء (بعد استشهاد شقيقهم منيب في قصف اسرائيلي على بنت جبيل عام 1970) وشقيقتين، صاروا جميعا أطباء. بل إن وجيه حقق ما هو أبعد بكثير من حلم والديه عندما قرر الانتقال من مزاولة طب الأسنان الى عالم الأعمال، ليطرق، بجرأته الفريدة أبوابه العالية والمنيعة ويحدث فيه فتوحات ذات شأن كبير.
لم أكن مهتما في لقاء الدكتور وجيه باستدراجه الى الحديث عن مقدار ثروته ومدى اتساع أعماله.. فسمعته الخيرية والإنسانية طارت منذ زمن غير قليل في فضاءات المشاريع العمرانية والجهود الإنسانية، عبر “مؤسسة حمقة الخيرية” التي أنشأها وخصص لها جزءا من تلك الثروة في سبيل إنهاض وتحسين أوضاع أهله وأبناء وطنه من المغتربين والمقيمين.
والنجاح الباهر الذي أصابه هذا الصديق الذي كان علامة فارقة في مجتمعنا الطلابي القديم، من حيث غزارة طموحاته وتزاحمها في مخيلته الفتية، لم يطو حكاية هذا الجنوبي المتمرد على التخلف والظلم والفقر، والمتوثب أبدا لتسليط اشعة نقده النفاذة على بقع أمراضنا الاجتماعية والطائفية، لتشخيص مواطن الخلل والضعف، والتصريح عن سُبل العلاج بنبرة لا تخفي صراحة لاذعة ومرة في توصيف الأوضاع التي يعيش أهل وطنه أسرى لها.
يحدثك بفخر، ليس عن ثروته، بل عن اهتمامات “مؤسسة حمقة الخيرية”. تعرف أن هذه المؤسسة تقدم منحا دراسية سنوية لطلاب الصحافة في كندا مما دفع برلمان مقاطعة أونتاريو إلى الإشادة بها وبصاحبها على مدى عشر دقائق في احدى جلساته الرسمية، في سابقة هي الأولى مع مهاجر عربي في تلك المنطقة من العالم. وهذه المؤسسة تهتم بالأيتام والفقراء في البلاد التي لأعماله فروع فيها، لتطال فوائدها ليس فقط المهاجرين اللبنانيين أو العرب بل شرائح من فقراء تلك البلاد، ومنها على وجه الخصوص رومانيا وبعض البلدان الإفريقية.
تسأل الدكتور وجيه السؤال التقليدي عن أسباب النجاح والتألق من باب تعميم الفائدة، فيفاجئك بإجابة غير تقليدية تقرب من الشعر، لكنها تصيب كبد الحقيقة: “نحن تجذرنا مثلما يتجذر شجر بلادنا في أعماق الأرض طلبا للماء. فأرضنا لا تمنح ماءها بسهولة للشجر أو البشر. ونحن كنا نعرف قيمة لنقطة الماء، مثلما تحس بها الشجرة الضاربة جذورها عميقا في الأرض فتصلب أكثر ويعود صعبا على الريح اقتلاعها. هذه الجذور هي ما يجعلني أبحث عنك وعن أصدقاء ورفاق الطفولة والشباب. أما عاطفة الأهل الذين كانوا يشحبون ويضنون لإطعامنا وإكسائنا وتعليمنا فهي محرك هائل لقطار رحلتي الصعبة مع الحياة قبل أن تستقر على محطة النجاح”.
والدكتور وجيه حمقة غزير التعابير التي تنضح بالحكمة ويأنس لها عقله ولسانه: “شعاري في الحياة.. الفاشلون اثنان: واحد فكر ولم يعمل وآخر عمل ولم يفكر.. أنا فكرت وعملت وكنت كلما وقعت على فكرة صائبة أقدم على تنفيذها بلا تردد”.
وعندما تسأله عما اذا كان قد تفرغ للتأليف بعد نشر ثلاثة كتب في السنوات القليلة الماضية يجيبك بحكمة أخرى صدر بها لباكورة مؤلفاته “ظلال أفكاري.. ذكريات وتحديات” تقول:
“إذا أردت ألا تنسى بعد موتك، إما أن تكتب شيئا يستحق القراءة أو أن تعمل شيئا يستحق الكتابة” لكن الدكتور وجيه يبدو مصمما على جمع المجدين في عمله الذي يستحق الكتابة بلا أدنى ريب، وفيما كتبه أيضا والذي يستحق القراءة. فكتابه الأول “ظلال أفكاري” سيرة ذاتية زاخرة بالذكريات والتحديات في قالب مشوق من السرد السلس الذي تزينه جواهر الحكم شعرا ونثرا:
هذا كتاب لو فهمت سواده
أهدى اليك من البياض كنوزا
فاذا بلغت القصد من أوراقه
أدركت شأوا في الحياة عزيزا
أما كتابه “المغتربون الشيعة” (عناء في المهجر ومعاناة في الوطن) فهو نداء صادق موجه الى المعنيين بالطائفة الشيعية للالتفات الى شؤون أهلها المغتربين وتقدير انجازاتهم ومواقفهم وعدم اعتبارهم مجرد “صندوق تبرعات” ولكي تبقى الطائفة العابرة لكل الطوائف والجامعة لكل الشركاء في الوطن، واما كتابه دواؤك بين يديك فهو دليل ميسر لأفضل أنماط الحياة الصحية والمديدة بأبسط الوسائل من الغذاء الصحيح والعادات الصحية والسليمة.
الدكتور وجيه حمقة زار مدينة ديربورن وأمضى طيلة الأسبوع الفائت بين أبناء بلدته بنت جبيل الذين احتفوا به في نادي بنت جبيل، بحضور حشد منهم ومن وجوه وفعاليات الجالية العربية في المدينة. وتحدث خلال الاحتفال مرحبا كل من مؤسس مؤسس النادي الحاج محمد طرفة ورئيس النادي الحاج علي حمود وأمين سر النادي نعيم بزي والزميل نبيل حمود في قصيدة ورئيس “رابطة القلم” د. نزيه مكي، وقُدم للدكتور حمقة درعان تقديريان من النادي ومن الرابطة ثم ألقى كلمة شكر في مستهلها أصحاب الدعوة والحضور وعبر عن سعادته “في الوقوف في هذا المكان العامر الذي يحمل اسم بلدتي الجميلة بنت جبيل، مهد الصبا ومصدر الإلهام ومنبت الأدباء والشعراء والعلماء، بلدة الآباء والمؤمنين الصابرين والأمهات المؤمنات العاملات والأبناء المميزين البارزين هناك في ظلال جبل الإيمان وهنا في وطنهم الثاني وفي كل بقعة من ديار الانتشار اللبناني في العالم”.
وخاطب الدكتور حمقة الحضور: “إننا أيها الأخوة والأخوات جزء من هذا المجتمع، وتلك المجتمعات الكبيرة. أبناؤنا هنا وأحفادنا هنا، ومصيرنا هنا، أمن هذه البلاد هو أمننا واقتصادها اقتصادنا وكل ما يسيء اليها يسيء الينا، وها نحن قد اصبحنا مواطنين بحقوق وواجبات كاملة”.
وبارك د.حمقة لنادي بنت جبيل مشروع “النادي الحسيني” الذي يزمع تنفيذه وأعلن عن مساهمة “متواضعة” بمبلغ 50 ألف دولار للمشروع. وجرى خلال الاحتفال توزيع نسخ من كتابي الدكتور حمقة: “ظلال أفكاري” و”المغتربون الشيعة”، وكتاب لشقيقته الدكتورة وصال حمقة بعنوان “جواهر العقول”.
وقد رافق الدكتور وجيه حمقة في رحلته زوجته ونجله قاسم سيزار، وشهد مقر إقامته في فندق حياة ريجنسي حركة زيارات كثيفة طيلة الأسبوع، من أصدقائه القدامى وأبناء بلدته بنت جبيل.
كما أقام له صديقه، رجل الأعمال فؤاد بيضون مأدبة عشاء في منزله في مدينة ديربورن دعا اليها أيضا عددا من أصدقاء الدكتور حمقة وكانت مناسبة جرى خلالها مناقشة لشؤون بلدة بنت جبيل ولقضايا الوطن وواقع الاغتراب.
Leave a Reply