كثيرة هي الأسباب التي تدفع اللبنانيين في بلاد الاغتراب إلى التشاؤم حيال مستقبل وطنهم الأم، وفي مقدمتها غياب المساءلة والمحاسبة على الجرائم التي تُرتكب بحق هذا الشعب والتي يظل مرتكبوها في عداد المجهولين، بسبب طريقة التعامل مع التحقيقات الرسمية لاسيما في الأحداث الدامية، مثل الاغتيالات والتفجيرات وصولاً إلى كارثة انفجار مرفأ بيروت في آب (أغسطس) الماضي، والتي يصرّ البعض على تسييسها دون أي اكتراث بدماء الضحايا وآلام أسرهم.
ففي تاريخ لبنان المعاصر، كان مصير التحقيقات المُستحقة، إما الوأد بعدم السماح بإجرائها أصلاً، أو أنها أجريت بطرق غير شرعية، أو أُخرجت عن سياقها القانوني والأخلاقي للاستثمار السياسي.
وأمام هول كارثة انفجار مرفأ بيروت، تجددت الدعوات –داخل لبنان وخارجه– إلى إجراء تحقيق مهني، موثوق ونزيه، يشفي غليل اللبنانيين الذين يذوقون الأمرين من جراء الفساد السياسي والأزمات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي قلبت حياتهم رأساً على عقب.
ولكن لسوء الحظ، ورغم مرور حوالي عام كامل على زلزال مرفأ بيروت، ها نحن نعود إلى نفس الكليشهات القديمة، والمعتادة، بالحديث عن: التسريبات، والتحليلات، وحملات التشهير، والمناكفات السياسية، إلى آخر ما هنالك. وإنه لأمر محزن ومخجل بكل معنى الكلمة، ويكاد يكون عملاً إجرامياً، أن يتم تجاهل مئات القتلى وآلاف الجرحى والمتضررين من جراء ذلك الانفجار المريع، من أجل تحقيق مكاسب سياسية ضيقة وفئوية في بلد ينحدر نحو الهاوية بوتيرة تتسارع يوماً بعد يوم.
كما أنه يؤسفنا ويؤلمنا أن يتم زج إحدى الشخصيات الأمنية اللبنانية المعروفة بنشاطها ومهنيتها ومصداقيتها في العديد من الدوائر العربية والعالمية، ونعني بذلك مدير الأمن العام اللبناني، اللواء عباس إبراهيم، الذي استهدفته –في الآونة الأخيرة– حملات تشهير منظمة وحاقدة، تتوخى اغتياله سياسياً، عبر ذر الرماد في العيون، ولو على حساب الحقيقة التي عادة ما تدفن في غياهب الصفقات المشبوهة.
لقد أشارت التسريبات الأخيرة من تحقيقات انفجار بيروت، بما فيها المعلومات المسربة من قبل قاضي التحقيق طارق بيطار نفسه، إلى أن السلطات اللبنانية لديها أدلة كافية لتوجيه اتهام جنائي للواء إبراهيم. وأن القاضي بيطار طلب من وزير الداخلية محمد فهمي (في حكومة تصريف الأعمال) رفع الحصانة عن إبراهيم، دون ذكر أي أساس قانوني أو منطقي.
للأسف، فعل بيطار ذلك بشكل انتقائي، متجاهلاً رفع الحصانة عن العديد من الشخصيات العسكرية المرموقة التي لها في مرفأ بيروت أكثر بكثير من مدير الأمن العام الذي ينحصر دور جهازه بضبط دخول وخروج الأشخاص من المرفأ، في حين تغاضى بيطار مثلاً عن استدعاء قائد الجيش العماد جوزف عون، ورئيس المخابرات العسكرية السابق طوني منصور، وغيرهما، مع أن القاصي والداني يعلم بأن الجيش هو المؤسسة المسؤولة عن تخزين المواد الخطيرة والمتفجرة في ميناء بيروت، بما فيها شحنة نيترات الأمونيوم التي نكبت أحياء واسعة من العاصمة بعد أن وصلت بطريقة غامضة ومثيرة للتساؤلات قبل سبع سنوات من انفجارها.
والأسوأ من سلوك بيطار الانتقائي، هو سلوك وسائل الإعلام اللبنانية ومتصفحي وسائط التواصل الاجتماعي الذين انضموا إلى جوقة الهجوم على اللواء إبراهيم بكل حماسة وكيدية في محاولة مستميتة منهم لتدمير مصداقية وسمعة الرجل.
وأمام هذه الهجمات المنظمة ضد اللواء إبراهيم، ينبغي على المرء أن يتساءل عن أسباب وتوقيت هذه الحملة؟
ولماذا تنهال الإشاعات والأكاذيب حول فساده المالي وأصوله المملوكة خارج لبنان؟ ولماذا تُسرّب كل تلك الإشاعات بالتزامن مع الحديث عن مسؤوليته المزعومة في انفجار مرفأ بيروت؟ هل هي مجرد صدفة، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
والسؤال الأهم.. من يقف وراء حملة التشهير هذه؟ هل هي بقصد معاقبته على إنجازاته الوطنية العديدة أم بقصد هز الثقة الدولية به للحيلولة دون استمراره في تأدية دور المبعوث الموثوق به إقليمياً ودولياً؟
ولا يخفى على أحد أن اللواء إبراهيم لعب دوراً رئيسياً في إنقاذ العديد من الرهائن الأميركيين والعرب واللبنانيين، مثل الأطفال الألبانيين في مخيم الهول، وراهبات معلولا في سورية، إضافة إلى الأميركيين سام ونزار زكّا، والكندي كريستيان باكستر، وغيرهم.
إن آخر ما يحتاجه لبنان، في هذه الأوقات العصيبة، هو أن يفقد أحد المسؤولين اللبنانيين المحترمين مصداقيته ونزاهته، أو أن تلطخ سمعته المهنية باتهامات لا أساس لها من الصحة.
إن الدوائر الأمنية والقضائية المحترمة تسعى دائماً إلى إبقاء التحقيقات في القضايا الحساسة رهن السرية المطلقة، لحين التوصل إلى الجناة والمخالفين وتوجيه الاتهامات لهم بمقتضى القوانين، لاسيما إذا كانت بعض الشخصيات العامة على صلة بتلك القضايا. والهدف من تلك السرية، هو المحافظة على نزاهة التحقيقات وحمايتها من أية تأثيرات أو ضغوط محتملة، لأن هدف التحقيق هو العثور على المخالفين للقانون، وليس الانتقام من الخصوم السياسيين.
وما من شك، في أنه إذا كان النظام القضائي في خدمة السياسيين (كما هو الحال في لبنان) فإن الحقيقة ستكون هي الضحية الأولى دائماً وأبداً، وبالتالي لن يتم تحقيق العدالة على الإطلاق. وفي هذه الحالة فإن المستفيدين الوحيدين هم الفاسدون والمذنبون الفعليون.
نعم.. لا أحد يجب أن يكون فوق القانون والمساءلة، لا اللواء عباس إبراهيم، ولا القاضي طارق بيطار كذلك، لهذا يجب إجراء التحقيقات بشكل مهني وسري، وبعد ذلك، فلتأخذ الأمور مجراها الطبيعي.. حسب الأصول المرعية.
إنه ليؤلمنا كلبنانيين أميركيين أن نرى شيئاً كهذا يحدث في وطننا الأم. لقد رأينا ما حدث في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وشاهدنا كيف تحولت تلك القضية إلى أداة وعصا سياسية لمعاقبة بعض الأفرقاء اللبنانيين والإقليميين. وكذلك شاهدنا كيف أُفشل التحقيق من قبل بعض الأشخاص الأكثر قرباً من الشهيد الحريري، لاسيما هؤلاء الذين اعتقدوا بأن ممارسة التحقيق والمحاكمة عبر وسائل الإعلام هي فكرة جيدة.. بينما أثبتت الوقائع والأيام عكس ذلك.
لهذا، ينبغي علينا أن نتفادى تكرار الأخطاء نفسها في التحقيق بحيثيات انفجار مرفأ بيروت، إن لم يكن من أجل معاقبة المسؤولين وزجهم وراء القضبان، فليكن من أجل راحة نفوس مئات الضحايا الذين سقطوا جراء ذلك الانفجار الرهيب. وإننا نتساءل حقاً، هل يستطيع لبنان إجراء تحقيق واحد بمسؤولية وشفافية لكي يستعيد ثقة الشعب وبقية دول العالم بنظامه القضائي؟
إننا –وأيدينا على قلوبنا– نرجو أن ينجح لبنان في ذلك، وفي أسرع وقت!
أسامة السبلاني
ناشر صحيفة «صدى الوطن»
Leave a Reply