محمد العزير
في الوقت الذي تواصل فيه لجنة التحقيق النيابية الخاصة، كشف المزيد من التفاصيل حول مدى تورط الرئيس السابق دونالد ترامب وأعضاء إدارته في محاولة الانقلاب على نتائج انتخابات 2020، والتي بلغت ذروتها في اقتحام مقر الكونغرس في واشنطن لمنع مجلسي الشيوخ والنواب من المصادقة على انتخاب جوزيف بايدن رئيساً. تفاصيل خطيرة تظهر مدى استهتار تحالف الجمهوريين العنصريين واليمين الديني بالديمقراطية وقيمها ومبادئها، ومدى استعداد هذا التحالف الشائن لارتكاب أية موبقات من اجل مواصلة الهيمنة البيضاء الأوروبية المنشأ على المجتمعات الغربية.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه الجرائم الجماعية عنصرية الدوافع على نطاق واسع في مختلف الولايات، وكأن السلاح المتفلت الذي يضع المحافظون الدفاع عنه على رأس شعارات حملاتهم الانتخابية وأولويات سياساتهم المتزمتة في الولايات التي يتمتعون فيها بالسلطة، صار مخصصاً لترهيب الأقليات والمهاجرين والملونين، ولا يتوانى رموز اليمين عن التلويح بالحرب الأهلية بينما يتعرض غير البيض من عرب ومسلمين ويهود وآسيويين وافارقة ولاتينيين لاعتداءات متكررة لم تعد تلقى في أوساط الجمهوريين أية إدانة أو تنديد، بل تحولت إلى مناسبات لتبرير السلوكيات العنصرية والهمجية وزيادة التحريض على كل ما هو غير مسيحي أبيض من أصل أوروبي.
وفي الوقت الذي أدى الفشل الذريع للغزو الروسي الدموي وغير المبرر لأوكرانيا إلى تفسخ الواجهة الاستبدادية التعسفية التي عمل فلاديمير بوتين على تلميعها وتعميمها في العالم كأسلوب حكم فعّال يستند إلى عصبية وطنية شوفينية واستثمر الكثير من الأموال والمقدرات والجهود لتسويقها في أوروبا والعالم عبر حركات اليمين المتطرف والفاشيين والنازيين الجدد ووجد في رئاسة ترامب (2017–2021) حافزاً وسنداً ومثالاً، ليبدد كل ذلك في بضعة أيام من الهزائم والصفعات أمام صمود الأوكرانيين والتضامن الدولي الشامل مع كييف، وتفيق الحركة الفاشية الجديدة من نشوة السكرة الدعائية على الحقائق المؤلمة حين بدأ التراجع الفوري لليمين الفاشي من فرنسا إلى استراليا ومن الفلبين إلى البرازيل وما بينها من انتخابات ومحطات تبشر بانحسار المد العنصري وانتباه الناس إلى مخاطر الانزلاق إلى سياسات وعقائد الثلث الأول من القرن الماضي بتلاوينها الفاشية والنازية والديكتاتورية والشمولية.
في هذا الوقت حصراً قرر مؤتمر العمل السياسي المحافظ CPAC وهو الملتقى النخبوي الشامل للحزب الجمهوري واليمين الديني أن يعقد دورة خاصة لمؤتمره السنوي الأسبوع الماضي، في بودابست عاصمة المجر.
لماذا بودابست؟
الجواب بسيط وواضح؛ ليكون في ضيافة فيكتور أوربان رئيس وزراء هنغاريا الذي يتمتع بمواصفات منشودة لدى حزب ترامب.
فيكتور أوربان واحد من أصدقاء فلاديمير بوتين المستبدين من أمثال رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو والرئيس السوري بشار الأسد. القاسم المشترك بين هؤلاء ليس شخصياً إنما في الأنظمة الديكتاتورية العارية في مينسك ودمشق وبودابست.
الفارق أن تجربة هنغاريا تختلف عن قريناتها. فقد سلكت هذه الدولة التي كانت في معسكر موسكو وحلف وارسو قبل انهيار الاتحاد السوفياتي طريقاً ديمقراطياً تجريبياً عقب سقوط جدار برلين. كانت تجربة واعدة خصوصاً وأن المجر وريثة إمبراطورية عريقة (الإمبراطورية النمساوية الهنغارية التي انهارت مع الإمبراطوريتين الروسية والتركية عقب الحرب العالمية الأولى) وكانت ذات خصوصية انفتاحية وهي في المعسكر الاشتراكي (انتفضت ضد الهيمنة السوفياتية عام 1956)، ولديها الكثير من النخب والمواهب والموارد البشرية ولا تفتقر إلى مكونات قيام مجتمع منفتح ومتسامح وديمقراطي، كما حصل في جاراتها رومانيا وتشيكيا وسلوفاكيا وبولندا، وقد انضمت إلى حلف الناتو عام 1999، وإلى الاتحاد الأوروبي عام 2003.
في أواخر العقد الأول من التحرر في هنغاريا تولى أوربان وهو سياسي محترف وبرلماني، رئاسة الحكومة (1998–2002) وترافق ذلك مع تحوّله العميق من ليبرالي منفتح (أسس حزب الشبيبة الديمقراطية عام 1989) إلى يميني محافظ يستخدم أساليب التعبئة والتنظيم التي تعلمها خلال سنواته القليلة في الحزب الشيوعي، ومع صعود الموجة الوطنية الأوروبية في العقد الماضي انتهز أوربان الفرصة بمساعدة وتمويل موسكو ليتطرف أكثر ويركب موجة العداء للمهاجرين التي إعادته إلى رئاسة الحكومة عام 2010، مستغلاً تداعيات الانهيار المالي الذي أصاب الاقتصاد العالمي أواخر عام 2008، وخلق أزمات عميقة في الاقتصادات الأوروبية.
وفي جو من الصعود المتواصل للنزعات الشوفينية والقومية المعادية للمهاجرين ومع التحول الكبير الذي أصاب الأحزاب المحافظة في الديمقراطيات العريقة خصوصاً في أميركا وبريطانيا والتي أفزعها وصول رجل أسود إلى سدة الرئاسة في واشنطن، بقدر ما استفزها التسامح الاجتماعي والنخبوي والأكاديمي مع حقوق المرأة والمثلية الجنسية والتعددية الاثنية والثقافية، (ما أدى إلى تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي عشية انتخاب ترامب في أميركا)، قاد أوربان بلاده تدريجياً نحو نظام استبدادي بدأ بالتضييق على الصحافة وحرية الرأي وتعزز باستخدام القضاء للضغط على المعارضين والتخلي عن معيار الكفاءة في الوظيفة العامة لصالح تمكين الموالين والحزبيين وصولاً إلى تغيير القوانين والأنظمة الانتخابية لضمان البقاء في السلطة. وعلى طريقة كل الفاشيين في كل زمان لعبت الرمزية دوراً في تجييش الرأي العام وتخويفه فأنشأ أوربان أول جدار عازل في أوروبا منذ انهيار جدار برلين، بإقامة جدار على الحدود مع صربيا لمنع دخول المهاجرين.
في خطابه السياسي، لم يخف أوربان أهدافه المباشرة فهو يريد دولته بيضاء، أوروبية، ومسيحية ولذلك تشدد في منع هجرة المسلمين والملونين، وكان من رواد نشر نظرية «الاستبدال العظيم» وهي نظرية مؤامرة مفادها أن القوى الديمقراطية والليبرالية في الغرب تتآمر لاستبدال الأكثرية المسيحية البيضاء بمهاجرين ملونين ومن أصول لاتينية ومن ديانات أخرى لا سيما الإسلام. تحولت هذه النظرية التي غرس بذورها المفكر الأميركي اليميني المعروف الراحل صموئيل هنينغتون في كتابه صراع الحضارات إلى مرجل فعّال لتخصيب الأفكار العنصرية بقيادة الإعلام الدعائي اليميني من شبكة «فوكس نيوز» وأخواتها إلى آلاف الصفحات الإلكترونية على الانترنت التي تتلطى خلف حق التعبير لتنشر الدعاية الفاشية كما تشاء.
لذلك قصد الجمهوريون بودابست ليكونوا بضيافة أوربان في المرة الأولى التي يعقدون فيها مؤتمرهم على أرض غير أميركية. شارك في المؤتمر ترامب ومن والاه وكانت «فوكس نيوز» قبلة المؤتمرين ومنبرهم. قصدوا هنغاريا ليعلنوا عملياً ورسمياً تبنيهم لسياسة عنصرية فاقعة تقود إلى فاشية متحالفة مع الكنيسة، كما حصل في روسيا، وعندما تنتفي السياسة في أي مجتمع ديمقراطي ويستبدل الاختيار بين اليمين واليسار، ليصبح أكثر بدائية، بين الأبيض والأسود، تصبح الفاشية تحصيل حاصل.
قد يعتبر البعض ممن يتابع السياسة المحلية الأميركية أن هذا الموضوع لا يخصنا كعرب أميركيين، لكن الواقع يقول غير ذلك وينذر بمستقبل مظلم لنا في بلد له تاريخ عريق في إبادة واستعباد واعتقال ونفي واستبعاد الأقليات. إذا قدر للفاشية أن تطأ هذه الأرض، وإذا عاد ترامب أو من يشبهه إلى البيت الأبيض، سنكون كعرب أميركيين في «بوز المدفع» فنحن نمتلك كل مواصفات الفريسة للوحش الفاشي الكاسر. العرب الأميركيون أقلية تختلف لوناً وهيئة وثقافة عن الأوروبي الأبيض، ومن يعتقد أن الاضطهاد سيقتصر على المسلمين منا مخطئ تماماً فذوو الأصول اللاتينية (من المكسيك إلى الارجنتين) مسيحيون أقحاح لكنهم من النصارى المغضوب عليهم.
المسألة تهمنا في الصميم، وللبحث صلة.
Leave a Reply