وليد مرمر
بدا كل شيء واضحا وضوح الشمس عبر تسجيل كاميرات المراقبة: تترجل إمرأة من حافلة دوريات الإرشاد أو ما يُعرف في إيران بـ«كشت إرشاد»، ثم تتوجه مشيا على الاقدام بشكل طبيعي ليس فيه أية علامات التعب أو الإرهاق او التأزم إلى قاعة فسيحة فيها نساء أخريات. ثم تجلس على كرسي في هدوء بانتطار دورها لكي تقابل إحدى المسؤولات حيث ستستمع لبرهة قصيرة لبعض الآيات أو الأحاديث أو النصائح حول التزام الحشمة في الملبس (وليس الحجاب). وهذا أمر روتيني جداً حيث من المعروف أنه يتم إطلاق سراح كل النساء في نفس اليوم بشكل لائق. الأمر كان يبدو عادياً جداً. ثم لسبب ما، وبعد أقل من دقيقة، تقوم المرأة من كرسيها وتتوجه إلى إحدى العاملات لتتشارك معها حديثاً قصيراً ثم فجأة تنهار على الأرض. وتتم محاولة إسعافها ونقلها إلى المشفى لكنها لا تلبث أن تفارق الحياة بعد أيام.
و«كشت إرشاد»، أو دوريات الإرشاد، ليست قديمة قِدَمَ الثورة الإسلامية في إيران كما قد يعتقد البعض. بل هي قد تأسست عام 2005 بعد أن بالغ بعض النساء بالتبرج والتزين ولم يرعين أبسط قواعد الحشمة التي دعا إليها دين الإسلام. ولقد لاقى وفاة مهسا أميني الفتاة الإيرانية–الكردية العشرينية ردود فعل مدروسة ومُمنهَجة من أعداء الثورة والباكين على نظام الشاه.
ولا شك في أن هناك بعض المسائل التي تطرح نفسها والتي سأحاول مقاربتها تباعاً.
– أولاً: هل هناك مسوغ شرعي لوجود دوريات التوجيه؟
– نعم. ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما من الواجبات الإسلامية التي حثّ عليها القرآن الكريم والسنة النبوية. ولكن هل هذا الأمر منوط بالدولة أو بأفراد المجتمع؟ الجواب أنه منوط بالجميع ولكن عصر ما بعد الحداثة قد قام بتقديس الحياة الخاصة والشخصية بحيث أصبح تدخل فلان من الناس ناصحاً لك حول طريقة لبسك أو سلوكك أمراً مستهجناً. لذا تحتّم على الدولة أن تقوم بهذه المهمة التي لم يعد مسوغاً لعامة الناس القيام بها.
– ثانياً: هل ينبغي أن يكون ثمة زي «لائق» وزي «غير لائق»، وهل للدولة أن تتدخل بتحديد الزي العام؟
كل الدول تفعل ذلك بشكل نسبي. فهناك أجزاء من الجسد يُمنع إبرازها في معظم دول الغرب مع تباينات بينها. فالدولة الفرنسية تتدخل بتحديد الزي العام وتمنع اعتمار غطاء الرأس وملابس البحر الشرعية «البوركيني». في كوريا الشمالية يجب أن لا يطول شعر الرجال عن خمسة سنتيمترات كما يمكن معاقبة النساء اللاتي يرتدين السراويل. وفي الفاتيكان ينبغي لكلا الرجل والمرأة تغطية ركبتيهما وأعلى ذراعيهما، كما يحظر الفاتيكان ارتداء السراويل القصيرة أو التنانير فوق الركبة والقمصان بلا أكمام والقمصان ذات القصات المنخفضة.
ولا جرم أن الاحتشام من أولويات تعاليم الدين الإسلامي لذا فقد فرضت الدولة الإيرانية تغطية نصف الرأس بالحد الأدنى للنساء في الأماكن العامة إضافة لتجنب ارتداء الملابس الفاضحة علماً أن جزاء فعل ذلك لا يكون إلا التذكير والنصيحة.
– ثالثاً: هل فعلت الحكومة ما يجب فعله تجاه الحادثة؟
رغم أن كاميرات المراقبة أظهرت بما لا يقبل الشك الوفاة الطبيعية لمهسا أميني فإن الحكومة تحركت بشكل عاجل للتحقيق في الحادثة. وقام نائب المرشد الأعلى بمحافظة كردستان في غرب إيران بزيارة منزل عائلة أميني وأعرب عن تعاطفه معها وطمأنها بأن جميع المؤسسات المعنية ستتخذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن حقوق الفقيدة. وفي مقابلة مع وكالة «تسنيم» أوضح أمجد أميني والد مهسا أن رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي قد اتصل به وأنه قد طالب الأجهزة المعنية بمتابعة الأمر بجدية حتى يتم توضيح أبعاده. وتابع: «هذه التصريحات منحتنا القوة والأمل، والذين يسعون إلى استغلال قضية وفاة ابنتي مهسا لا علاقة لنا بهم ولا علاقة لهم بنا، وهم لا يمثلوننا ولا يريدون مصلحتنا». وبالمقارنة فلقد رأينا العديد من مشاهد الاعتداء التي لا تقبل الشك في الغرب وفي الولايات المتحدة تحديداً من الشرطة ضد الأفارقة الأميركيين مما أدى إلى موت الكثيرين، ولكن قلما سمعنا أن الرئيس قد قام بالاتصال بأي من ذوي الضحايا معزياً، كما ولم نشهد تظاهرات للمطالبة بإسقاط النظام! ويوم الخميس الماضي، قال الرئيس الإيراني خلال مؤتمر صحافي على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، «اطمئنوا سوف يتم فتح تحقيق بالتأكيد»، موضحاً أن تقرير الطبيب الشرعي لم يشر إلى انتهاكات ارتكبتها الشرطة.
– رابعاً: التضليل الإعلامي وصناعة الوعي المُعَلَّب
ما أن شاع خبر وفاة مهسا أميني في مركز التوجيه والتي تشير كل الدلائل –أقله حتى الآن– أنها كانت طبيعية، حتى انبرت وسائل الإعلام الإقليمية والدولية والمنظمات والجمعيات والذباب الالكتروني و«الناشطون» والمصطادون في الماء العكر والبكاؤون على نظام الشاه البائد لاستهداف الحكومة الإيرانية والولي الفقيه والنظام الإسلامي ككل وذلك في هجمة إعلامية ممنهَجَة لتوليد نوع من الزخم كان يُرجى استثماره في شوارع إيران. وبما يبدو أنه بإيعاز من مشغليهم، نزل العشرات من الشبان إلى الشوارع في بعض المدن في محاولات بائسة يائسة لنشر الفوضى وبث الإشاعات ولإثارة القلاقل والفتن حيث قام بعض الفتيات بحرق أغطية الرأس. وفي فبركات وتزييف للحقائق طالما شهدنا أمثالها في الحرب على سوريا ولإضافة المؤثرات الدرامية التي تتحكم في العقل الجمعي للمتَلَقي، تبرعت وسائل إعلام يملكها آل سعود كـ«العربية»، «بتسريب» صور شعاعية لمهسا أميني تبدو فيها (كما ادعت زوراً) كسور في الجمجمة!
– خامساً: في النتيجة
إن حادثة مهسا أميني لن تكون الوحيدة التي سيحاول عبرها حلفاء الشاه القدامى، زعزعة المجتمع الإيراني عبر وسائلهم العديدة من أجل إضعاف الدولة وإسقاطها. فالعمل جار على قدم وساق لنشر أحصنة طروادة داخل المجتمع الإيراني –سيما في صفوف الشباب– للتبشير بالقيم «العلمانية والليبرالية» وتمجد «الحريات» سيما المتلونة بألوان قوس قزح! وهذه «القيم» تتشابه في كل «الثورات الملونة» بدءاً من أوكرانيا وحتى لبنان والتي لم يتمخض عنها إلا الحروب والقلاقل والفوضى «المنظَّمة». نعم لا يسع أحد أن ينكر أنه قد يكون هناك هامش للإصلاح داخل الجمهورية الإسلامية ولكن ثمة فرق شاسع بين النقد البنّاء ومحاولات الإصلاح وبين الانقلاب الكلي على مبادئ الثورة والتنكر لإنجازاتها.
قال الإمام علي (ع) «لو أن الباطل خلص من مِزاج الحق لم يخفَ على المرتادين ولو أن الحق خلَصَ من لَبسِ الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يُؤخذ من هذا ضِغث ومن هذا ضِغث فيُمزَجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى». وقال أيضاً: «إن الفتن إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت نبّهت، يُنكَرنَ مُقبلات ويُعرَفنَ مُدبِرات، يحمن حوم الرياح يصبن بلداً، ويخطئن بلد.
إن الكيِّسَ الأَرِيبَ من يبصر الحق رغم امتزاجه بالباطل ومن يَتَنَبّهَ للفتن وهنّ مقبلات، ذلك أنه لا فائدة من أن يُعرفنَ مُدبرات بعد أن عِثنَ فساداً وهَدمنَ ما لا يمكن إصلاحه!
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply