نبيل هيثم – «صدى الوطن»
أيام قليلة تفصل بين الجولة الأخيرة التي قادت وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى دول الخليج، وبين الجولة «الاستكمالية» التي سيقوم بها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى كلّ من إسرائيل ولبنان والكويت، والتي تأتي بعد أسابيع قليلة على الجولة الأولى التي قادته إلى دول أخرى في الشرق الأوسط.
يعكس هذا الحراك تصاعداً في صراع النفوذ بين الولايات المتحدة وروسيا، على الشرق الأوسط، ضمن نطاق يتجاوز الميدان السوري، الذي عاد ليشكل عنواناً للتنافس الدولي، خصوصاً بعد تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قراره السابق بالانسحاب من سوريا، وهو ما تأكد رسمياً بالرد الرئاسي على رسالة وجّهها مشرّعون أميركيون طالبوا فيها بالإبقاء على «مجموعة صغيرة» من الجنود في سوريا.
هذا القرار كان كافياً لتفسير أسباب إعادة استحضار ورقة «داعش» من قبل الولايات المتحدة عبر معركة الباغوز، التي يبدو الهدف منها إيجاد تبريرات عملانية لإبقاء الجنود الأميركيين في سوريا، وإعادة تعويم الوحدات الكردية، التي تنفست الصعداء عقب الخطوة الترامبية الأخيرة، بعدما كانت تركيا على قاب قوسين أو أدنى من إطلاق حملتها في شرق الفرات.
المربع السوري
القرار الترامبي نفسه يفسّر خلفيات ارتفاع منسوب التوتر على خطوط التماس المحيطة بالمنطقة «منزوعة السلاح» المفترضة في محيط محافظة إدلب (شمال غرب سوريا)، مع تحوّل عمليات القصف المتبادل إلى اشتباكات ومعارك عنيفة في عدّة جبهات بين ريفي حماة واللاذقية، وسط تكرار للتصريحات الروسية المطالبة لتركيا بتنفيذ مذكرة التفاهم الموقّعة في سوتشي بين الرئيسين الروسي فلايمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في منتصف أيلول (سبتمبر) الماضي، والتي تقتضي أن تقوم أنقرة بفرز الجماعات المعارضة عن تلك الإرهابية (جبهة النصرة).
وانطلاقاً مما سبق، يتضّح أن الولايات المتحدة لم تتخل عن التنافس الجيوسياسي مع روسيا على الأرض السورية، ما يفرض إعادة خلط الأوراق على المستوى الإقليمي، كما على خط العلاقات الروسية–الأميركية.
وفي هذا السياق، لا شك أن الخطوة الأميركية الأخيرة ستعقد الموقف أكثر، بين الولايات المتحدة وتركيا، خصوصاً أن قرار ترامب السابق بسحب قواته من سوريا كان قد أزال من أمام تركيا عائقاً كبيراً للخلاف العميق مع الأميركيين حول دور الأكراد في المنطقة، وشجع أردوغان على إعلان التريث في إطلاق العملية العسكرية المرتقبة شرقي نهر الفرات شمالي سوريا ما قد يفتح الباب أمام تسوية جديدة في سوريا.
روسيا-تركيا-إيران
الملفت للانتباه أن القرار الأميركي بالإبقاء على قوة عسكرية قوامها 400 جندي في سوريا قد جاء بعد ساعات من اتصال هاتفي بين ترامب وأردوغان، وهو يعكس بشكل كبير، التغيير في طريقة التعاطي الأميركي مع قضية شرقي الفرات.
ولكن هذا التغيير يبدو بالنسبة إلى روسيا سلاحاً ذا حدين، فبقدر ما يزيد قرار ترامب من الفجوة في الثقة بين الولايات المتحدة وتركيا، ما يقرّب الأخيرة من روسيا، بقدر ما قد يشكل حافزاً لمزيد من المناورة التي يمكن أن يقوم بها رجب طيب أردوغان، الذي يقارب علاقته مع القوتين الدوليتين اللدودتين بمنطق الابتزاز، حيث يجعل رجله اليمنى عند الأميركيين واليسرى عند الروس.
من هنا، يأتي تحذير المسؤولين الروس، في الآونة الأخيرة من مخاطر تقويض «مسار أستانا»، خصوصاً بعدما طفت الخلافات بين الترويكا الضامنة (روسيا، إيران، وتركيا) على السطح.
ومع ذلك، فإنّ الروس يبدون مطمئنين من أن أردوغان لن يغرّد بعيداً عن سرب أستانا، أياً ذهبت في مناوراته، خصوصاً بعد تغيّر المعادلة في سوريا لصالح روسيا بشكل واضح، عقب الإنجازات الميدانية التي تحققت منذ بدء «عملية مكافحة الإرهاب» في خريف العام 2015.
وفي المقابل، فإنّ الإبقاء على التواجد العسكري الأميركي في سوريا من شأنه أن يبدّد ما ظهر من خلافات بين روسيا وإيران على خلفية السعي الروسي لمقايضة الانسحاب الأميركي بالانسحاب الإيراني، وهو أمر ينظر إليه المسؤولون في موسكو وطهران بارتياح، خصوصاً أنه سيزيل أيّة مسببات للخلاف بين الطرفين.
روسيا في الخليج
لعل ما سبق يشكل محفّزاً هائلاً للروس، لتثبيت الوضع القائم في العلاقات على خطّي أنقرة وطهران –وهو تثبيت متصل بشكل وثيق وحصري بالوضع في سوريا– للاندفاع نحو مقارعة الأميركيين في مناطق نفوذ أخرى في الشرق الأوسط، لا سيما في الخليج العربي.
وعلى هذا الأساس، تأتي الجولة الخليجية التي قام بها لافروف خلال الأيام الماضية، بعد نحو شهرين على الجولة التحريضية التي قام بها نظيره الأميركي إلى دول الشرق الأوسط، والتي سعى عبرها إلى إظهار التزام واشنطن بحلفائها الإقليميين، عبر حراك دبلوماسي سرعان ما تكشّفت عبثيته في ظل المتغيرات التي تشهدها العلاقات الخليجية الأميركية، وخصوصاً بعد أزمة الصحافي جمال خاشقجي، وفشل اجتماع وراسو.
ولا شك في أن الروس قد شعروا بحصول هذه التغييرات، وبالتالي الحاجة إلى اقتحام ميدان العلاقات الخليجية–الأميركية، بعدما استطاعوا تمهيد التربة لخطوة من هذه القبيل خلال السنوات الماضية.
وتبدو جولة لافروف جس نبض لخطوات لاحقة قد تترجم بزيارة يقوم بها الرئيس فلاديمير نفسه إلى عدد من الدول الخليجية، خصوصاً أن ثمة دعوات موجهة إليه من أكثر من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنّ ما حملته تصريحات لافروف من مواقف سياسية في جولته تلك، تأتي أيضاً بمثابة رسالة غير مباشرة للحكام الخليجيين بشأن السياسة التي ترغب موسكو في اتباعها حيال العلاقات مع الخليج، والتي تبدو على طرف نقيض مع السياسات الأميركية.
ولعل أهم تلك الرسائل المباشرة وغير المباشرة، تمثلت في حرص لافروف على إفهام الدول الخليجية بأن روسيا تتعامل معها كعائلة واحدة على الرغم من خلافاتها الداخلية.
على هذا الأساس، توقف لافروف في الدوحة ثم ذهب إلى الرياض قبل الانطلاق إلى الكويت وأبو ظبي، وذلك رسالة مهمة للغاية مفادها أن موسكو لا ترغب في اتباع القواعد التي ربما ترغب القوى الإقليمية في فرضها، والمقصود بذلك أن روسيا مصرّة على اتباع الحياد تجاه الأزمة القطرية–السعودية.
وساطة بين إيران والخليج
لكنّ الرسالة الأهم تكمن في المحادثات التي أجراها رئيس الدبلوماسية الروسية مع المسؤولين الخليجيين بشأن صفقات شراء منظومة «أس–400» الدفاعية الجوية، وهي خطوة إن تمّت، فستعني إمكانية تحريك مسارات التهدئة بين الخليجيين وإيران، خصوصاً أن منظومات دفاعية كهذه قد تشكّل بالنسبة إلى دول الخليج ضمانة عسكرية تجاه ما تصفه بـ«خطر الصواريخ الإيرانية»، وهي الحجة التي تسعى موسكو لنزعها من خلال معادلة الردع الدفاعي من جهة، وعبر تقديم نفسها وسيطاً «نزيهاً» بين الخليج وإيران على المستوى السياسي.
وثمة إجماع عند المحللين الروس، وبعض المحللين الغربيين، على أن الحراك الروسي تجاه الدول الخليجية، إن نجح فسيؤدي إلى انقلاب في المشهد السياسي الإقليمي، وقد يفتح المجال أمام تسويات كبرى، تؤدي إلى تقارب سياسي بين الروس والخليجيين في أكثر من ملف إقليمي على حساب الولايات المتحدة.
ومما لا شك فيه أن الملف السوري سيشكل الاختبار الأول لهذا الحراك، خصوصاً أن زيارة لافروف حملت دعوات روسية إلى الدول الخليجية بالعودة إلى سوريا (وهي خطوة بادرت إليها دول عربية أهمها الإمارات)، والشراكة في جهود إعادة الإعمار.
لكنّ ذلك قد يتطلب أثماناً يطلبها الخليجيون، وأهمها خروج الإيرانيين من سوريا، وهو أمر ربما يكون ممكناً، برغم تعقيداته، إذا ما اقترن بتسويات كبرى، تقودها روسيا، على خط العلاقات الخليجية–الإيرانية. ومع أنّ طريق تسويات على هذا المستوى الهائل يبقى طويلاً ومعبّداً بالألغام السياسية والعسكرية، وهو يحمل من عوامل الفشل بقدر ما يحمل من عوامل النجاح، إلا أن الحراك الروسي، والذي يفترض أن يقابل بحراك أميركي مضاد، يشي بأن مساراً جديداً قد فتح في صراع النفوذ بين الولايات المتحدة وروسيا، وحوله ستدور كل الحراكات المتلاحقة، سياسياً، وربما عسكرياً.
Leave a Reply