موجز عن تاريخ الاصلاح في الفكر الاسلامي هل يحتاج الفكر الاسلامي الى اعادة صياغة؟ بل هل يحتاج الى تصحيح؟ اذا كان الجواب «نعم» فأي جزء فيه يحتاج الى اصلاح؟ واذا قسمنا الفكر الاسلامي الى «عقيدة» و«لاهوت» (او «علم كلام» بالتسمية التاريخية) و«تفسير قرآن» و«فقه» فأي قسم من هذه يحتاج الى اصلاح؟ واذا افترضنا حاجة كل هذه الاقسام الى تصحيح: الا يعني ذلك الخلل؟ واذا اختلت العقيدة، واللاهوت وكان تفسير القرآن يحتاج الى اعادة منهجة واصبح الفقة الاسلامي بحاجة الى صياغة جديدة فماذا يبقى من الاسلام؟ ونطرح السؤال مجددا: ماهو الاصلاح؟محاولات الاصلاح فـي القرنين الـ19 والـ20محاولات قليلة قاربت الاصلاح الفكري في العصر الحديث. والاسماء تعد على الاصابع: – جمال الدين الافغاني طرح الفكرة الاساسية ان لا تعارض ما بين الاسلام والحداثة «اذا» ما قرأ الاسلام على حقيقته. ثم نظر في السنة النبوية وطرح
محاكمتها لمعرفة الصحيح من المدسوس في محاولة لأعادة النظر في مصادر التشريع الاسلامي. وعلى ضوء ذلك لم ير أن الحقوق الدستورية تعارض الاسلام. (مازالت الوهابية ترى ان اعلان حقوق الانسان الاممي يعارض الاسلام؛ في المقابل، رآى آية الله الخميني ان ليس للانسان حقوق امام حق الله الذي يستطيع ان ينتزع تلك الحقوق متى شاء، وعليه في سبيل الدولة الاسلامية يمكن مخالفة حقوق الافراد).- محمد عبدو (مفتي الازهر) نظر في السنة وانتقد ما يخالف العقل فيها، حاول تحديث الازهر وفتح باب الاجتهاد واصطدم بعناد رجال الازهر. أكد فكرة الافغاني من انه لو فهم المسلمون الاسلام الصحيح كما فعل الاوائل منهم لما انهزموا امام الغرب. لكن عبدو طرح فكرة في غاية الجوهرية والخطورة في كتابه «تفسير المنار»: ان القصص القراني في القرآن ليست تأريخا لأحداث تلك القصص، بل هي للعبرة والتذكير صُبّت في قالب ادبي متجاوزة التسلسل الزمني. وعليه، اذا ما تعارضت افكار القرآن مع الحس المنطقي والكشوفات العلمية فإنه يجب ان يفهم ان النص القرآني خاطب انسانا عربيا كان يرى الكون بطريقة محددة. يضمر هذا الرأي موقفا من ان القرآن نص كغيره من النصوص ويجب ان يخضع للتحليل الحديث (وهذا يخالف كل الارث الاسلامي الكلاسيكي الذي يرى ان القرآن ينقل الواقع كما هو: سنعود الى هذه النقطة لاحقا مع طه حسين، امين الخولي، احمد خلف الله وصولا الى نصر حامد ابو زيد).- عبد الرحمن الكواكبي كتب في «طبائع الاستبداد» عن فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية. جاء من بعده علي عبد الرازق (بدايات القرن العشرين) الذي كتب «الاسلام واصول الحكم» مفندا فكرة الخلافة معتبرا ان الاسلام لم يضع شكلا معينا للسلطة السياسية وكل ما وضعه هو مبادئ فقط. وهذا ما وصل اليه في ايران الشيخ حسن يوسفي اشكواري (في خمسينيات القرن الماضي) مستندا الى رسالة الامام علي الى مالك الاشتر. الا ان كل تلك المحاولات المتقدمة اصطدمت بحقيقة جوهرية في الفكر الاسلامي التقليدي: ان القرآن هو كلام الله النهائي الى البشر. نزل من عند الله كما هو. ويجب التعامل معه على انه التعبير النهائي عن الحقيقة. فإذا تكلم عن شيء فلا يمكن التأويل، بل وصل البعض الى درجة انهم فسروا الاية «يوم يكشف عن ساق» على ان لله ساق. آخرون أقروا بوجوب تأويل الآية، لكنهم اختلفوا على ما يجب تأويله. فإذا ذكر الله «آدم» فهذا يعني ان ثمة رجل اسمه آدم خلقه الله بشكله النهائي ولا مجال لتطبيق نظرية داروين عن تطور المخلوقات، حتى لو اثبت العلم ذلك. وان تكلم الله عن الملائكة فهذا يعني انها مخلوقات حقيقية بأجنحة كما وصفها القرآن بالضبط. واذا قال «اضربوهن في المضاجع» فلا مجال لغير الضرب. والسارق تقطع يده بنص الآية. والجهاد فرض لقتال الكفار، فالقرآن صريح في نشر الاسلام عبر القتال. (رغم ان هناك ايات عن الجدال بالتي هي احسن).اسئلة حول ماهية الاصلاحفهل الاصلاح يعني ان نجمّل الاحكام الشرعية حتى تتوافق مع العصر الحديث. صحيح ان قطع يد السارق لا يطبق الا في السعودية. لكنه صحيح ايضا ان النص القرآني واضح بهذا الشأن. فكيف يتم الاصلاح. هناك من رآى (الفقه الشيعي) ان قطع اليد يحتاج الى شروط عديدة من الصعب ان تتوافر، اي انه عمليا لا مجال لتطبيق العقوبة. لكن المشكلة ليست في الشروط صعبة التوافر وانما في العقوبة القاسية بحد ذاتها. لأن اي عقوبة تترك اثرا على جسم المعاقب ستكون عائقا للمذنب عن التوبة. كيف يتوافق ذلك مع الرحمة الالهية التي تشرئب لها عنق ابليس.لكن المشكلة اقدم من ذلك. والقائلون بالتأويل لم يبدأوا عند الافغاني ومحمد عبدو. بل من بدايات تشكل الفكر الاسلامي الفلسفي.خذ مثلا «اللاهوت» وهو «الفلسفة الإلهية» (او «علم الكلام» كما اطلق عليه العرب الاوائل) وهو جانب من المعرفة اشتغلت بقضايا «ماهية الخالق» و«طبيعة القرآن» و«كيفية تفسيره» و«المُحكم والمتشابه» وحقيقة الخير والشر وغيرها من الامور: التي اذا ما حسمت، تركت تأثيرا عميقا في اهم فرع من افرع المعارف الاسلامية: الفقه. وماذا يعني الاصلاح في «علم الكلام»: اعتماد العقل الانساني حاكما للافكار بدل الارتكاز على الغيب الالهي. لكن الغلبة لم تكن للعقل دوما. عندما اختلف علماء الكلام، الاشاعرة والمعتزلة، في بداية العصر العباسي على تلك المفاهيم لم يعلن انتصار احدهما بسبب ما له من حجة. بل كانت السيادة للمدرسة التي وجدت لها سلطة سياسية تنتصر لها.اختلف علماء الكلام على «ماهية الخالق» هل هو موجود فعلا كما نحن موجودون ام هو وجود من نوع آخر. وصل المعتزلة الى ان وجود الله هو وجود ذهني وليس حقيقي بمعنى انه ليس موجودا كما نحن موجودون، وكان لذلك اثر على تفسير القرآن حيث فسرت الايات التي تتحدث عن تجسيد الله («يد الله فوق ايديكم» و«يوم يكشف عن ساق») على انها تشابيه كنائية لا تعني الوصف الواقعي. وعليه، لمعرفة المعنى الكامن في الاية لا بد من التأويل. رفض الاشاعرة التأويل. ورأوا ان الايات لا بد وان تفسر على ضوء المعنى الذي تحمله اللغة. واعتبروا ان هذا المعنى هو التعبير عن الحقيقة. كيف اثر ذلك فيما بعد على الفقه: الذين اخذوا بالتأويل فسروا كثيرا من الايات على اعتبارها تشابيه لغوية. يقود هذا البحث الى معضلة اخرى في تفسير النص المقدس. فالايات القرآنية قسمت الى «مُحكمة» اي ذات معنى مباشر والى «متشابهة» اي آيات تحتمل التأويل. لكنهم اختلفوا ايضا على تحديد ما هي الايات التي تحتمل التأويل وتلك التي تفسر بشكل مباشر . (ومشكلة التأويل هي مفتاح الحلول في الفكر الاسلامي حيث ازدهرت في العصر الحديث ووصلت ذروتها مع المفكر الاسلامي نصر حامد ابوزيد). ايضا، اختلف علماء الكلام حول طبيعة القرآن: هل هو مخلوق ام هو ازلي. اتجه الخلاف الى نهاية مآساوية فيما عرف وقتها بـ«مذبحة القرآن». كما اختلفوا على «الخير والشر» هل يحدد العقل طبيعة الخير والشر ام ان الشرع هو الذي يحدد ذلك. هل القتل شر لأن القرآن نهى عنه ام ان القرآن نهى عنه لأنه شر. فإذا حدد العقل مفاهيم الخير والشر استطعنا ان نقر بنسبية تشكل المفاهيم وتغيرها عبر الزمن. ومن هذه المفاهيم العقوبات القاسية من
قطع يد ورجم وجلد وما الى هنالك.طبعا لم يتسنّ لكثير من هذه الخلافات الفلسفية حرية الحركة على الاخص بعد ان سيطر الجمود الفكري مع انهيار الدولة العباسية على ايدي المغول. وحتى قبل المغول، استطاعت السلطة الحاكمة ان توظف فقهاء السلاطين (تلميذي ابو حنيفة، ابو يوسف والشيباني، اصبحا قضاة رسميين للدولة) بطريقة منعت العقل من التحرر من ربقة النص الديني الغيبي لأن ذلك ان تحقق سيفتح الباب امام الثورات المطالبة بحقوق العباد في مواجهة تعسف السلطة السياسية. تلك السلطة التي استفادت ايما استفادة من رأى الاشاعرة حول جبرية القدر مع ما يعني ذلك من قبول حكم السلطان الجائر وعدم الثورة عليه.الوهابية والثورة الايرانية نموذجينما ذكرناه أعلاه تاريخ. لكنه تاريخ مهم في فهم كيفية التطور اللاحق الذي واجه الاصلاح الفكري في الاسلام والذي رغم المحاولات العديدة التي جربها لم يتسن له النجاح.لكن ماذا يعني الاصلاح؟ هل هو تقرير بصدق رسالة السماء وخطأ من فسروها؟ ام هو نسف لكل معرفة قائمة على الارث الديني اصلا؟ ام هو تحييد المعرفة الدينية وحصرها في مكان ضيق لعلاقة المؤمن بخالقه وترك ما دون ذلك لعقل الانسان يتدبر فيه قدرما يمتلك من طاقة، وقدر ما يكتشف من آليات فكرية، وكمية ما يواجه من تحديات؟المحاولات الحديثة (التي رأت النور) لم تقدم الكثير للفكر الاصلاحي. وباستقراء تطور الفكر الاسلامي، (والتطور هنا لا يعني نحو الافضل بالضرورة) نستطيع ان نرى ان كل حركة فكرية اعتبرت نفسها مجددة ووضعت الاصلاح في مكان ما في قاموسها.
الوهابية التي ظهرت في القرن الثامن عشر عبر مؤسسها «محمد ابن عبد الوهاب» والذي اعتمد على صيغة ضيقة في فهم الاسلام، تحديدا مدرسة «احمد ابن حنبل» وعلى الاخص عن طريق فهم «ابن تيمية» و«ابن قيم الجوزية» اللذين فاقا ابن حنبل في السلفية، كانت من منظور مؤسسها حركة اصلاحية اصولية (اي محاولة لاعادة الدين الى اصوله الصحيحة). وكان تحالف ابن عبد الوهاب مع مؤسس الدولة السعودية «محمد ابن سعود» تثبيتا للفكر الوهابي. شكل هذا التحالف ما بين التشدد والنظام السياسي عائقا امام طرح اي فكر بديل. وكان حصاد تلك الحركة هو ولادة «الفكر القاعدي» الذي لا نستطيع، بأي شكل من الاشكال، ان نحمل «ابن لادن» وحده مسؤولية تشكله. «القاعدة» كانت مولودا طبيعيا للوهابية. واحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) هي النتيجة الطبيعية لتطبيق الفكر السلفي السياسي الذي في سبيل «احقاق الحق» يسمح بتجاوز ما يمكن ان يعتبر «ظلما او سوءا».نموذج آخر لحركات الاصلاح: الثورة الايرانية. وهي لم تكن ثورة فقهية ولم تحمل قلبا لطرائق التفكير الفقهي بل كانت تبلور مُركّز للفكر «الشيعي الاثنى عشري» بمظهر سياسي. فلقد استفاد آية الله الخميني من نظرية ولاية الفقيه ليوظفها في اسلوب غريب بعض الشيء: دولة عصرية تتخذ الشكل الجمهوري، يشكل «الولي الفقيه» اعلى سلطة دينية فيها، يمتلك سلطة إلهية تصل اليه عبر الامام الغائب، المهدي المنتظر. ففي ايران يستمد الحاكم الاعلى سلطته من الله مباشرة عبر الصيغة الدينية رغم ان الشكل المستعار للدولة هو جمهوري. وهنا ايضا توافقت النظرية الدينية مع السلطة السياسية فكانت النتيجة سيطرة الفكر المحافظ على الحياة الفكرية السائدة.هذه النماذج الاصلاحية لم تغير شيئا على الصعيد العملي في الفكر الاسلامي، وكانت نماذج عن التوظيف السياسي لفكر متفاوت في التشدد. فكثير من الافكار الاصلاحية التي توصل اليها الفكر الانساني ما زالت بعيدة عن التغلغل في صلب الفكر الديني الاسلامي. فالاقليات الدينية لا تمتلك نفس حقوق المواطنية لا في ايران ولا في السعودية (مع التفاوت في الحدة) والمرأة ما زالت تعاني بنص الدين من معاملة متعسفة ان كان في حقوقها الزوجية وحقها في التطليق او في مكانتها المتأخرة عن الرجل في المجتمع. اضف الى ذلك ان مفاهيم التكفير ما زالت سائدة ولها جذورها في صلب القرآن(او على الاقل في الفهم التقليدي للقرآن)، من قبيل عقوبة الردة وهي القتل بنص الحديث. ناهيك عن العقوبات القاسية للجرائم في الاسلام، الحدود.كيفية مقاربة المشكلة بالآليات القديمة للتفكيرولقد كثرت المحاولات لتلطيف الصيغة الدينية عبر طرحها بطرق يستسيغها انسان القرن الواحد والعشرين. وانقسم رجال الدين (وهذا الانقسام افتراضي، لأن التصنيف صعب هنا) الى «فقهاء صريحين» يقولون كلمتهم ويمشون ولا يأبهون كيف ينظر بقية العالم لهم؛ والى «فقهاء حداثة» يحاولون التجديد والخروج بصيغة حديثة للفكر الاسلامي. وكلا الفريقين لديه مسوغات منطقية. فلا يستطيع احد ان ينكر على الوهابي تحريمه الصلاة امام قبر الرسول الكريم فهو لا يستطيع ان يفهم الآية «ولا تتخذو مع الله شريكا» الا بهذا الشكل الحرفي لأن آليات تفسيره للنص الالهي تمنعه من التأويل والقفز عن المعنى المباشر للنص. ولا احد ينكر عليه ايضا القول بضرب النساء ان هن نشزن. فالآية صريحة: «واضربوهن». لكن «الفقيه الحداثي» يواجه مأزقا حقيقيا. فهناك من فسر الضرب في الآية على انه «توبيخ حنون» لا يصل الى حد الايذاء. ولكن حتى هذا التفسير مخالف اصلا لمبتغى الآية وهو التأديب. هنا يبدو موقف «الفقيه الصريح» اكثر اقناعا من «الفقيه الحداثي». ومع ذلك، لا بد وان نعترف ان لهذا «الفقيه الحداثي» مسوغات: كيف يدعوا القرآن الى الضرب وهو يدعو في نفس الوقت الى التسامح والرفق بالمرآة. وفي ايران وطبقا لقانون الاحوال الشخصية المستمد من الشريعة، للمرآة ان تطلب الطلاق من المحكمة ان لم يدفع زوجها مثلا فاتورة الكهرباء (نفقتها) او ان لم يمارس معها الجنس (حق الزوجية) لكنها لا تستطيع ان تطلب التطليق فقط لأنها لم تعد تطيقه او لم تحبه اساسا. فالحب اصلا هو سبب الزواج، بالمفمهوم العصري. لكن السبب في هذا التفاوت في اسباب الطلاق، بكل بساطه، هو ان الشرع حدد حصرا حالات التطليق عبر الاحاديث النبوية التي
يتخذها الشيعة مصدرا للتشريع في حالات الطلاق وليس من بين هذه الحالات خفوت الحب او انقلاب العِشرة الهانئة الى حياة بؤس. والسبب في ذلك مفهوم. ففي عصر النبي لم تكن تلك المفاهيم راسخة وكان ينظر الى المرأة على انها اقل من الرجل شأنا وهذا ليس جناية الاسلام بل هو حال المجتمعات القديمة قاطبة. لكن من يتملك من الفقهاء الجرأة ليقرر مثلا حق المرأة في تطليق الرجل مساواةً بالرجل الذي له التطليق دون حتى ان يبدي اسبابا. هنا مثلا حاول الفقهاء الالتفاف على الشريعة. ولأن لعقد الزواج مواصفات العقود المالية الاخرى، فقد رأوا انه يجوز للمرأة ان تشترط التطليق. وهم بهذا يعترفون لها بحقها. لكن المشكلة لم تحل. فالرجل، طبقا للقاعدة الاصل، هو من يمتلك الحق في التطليق اذا لم يكن هناك شرط. ولم يجد الفقهاء حلا لذلك، لأن النص صريح. اذن لا يمكن بأي شكل من الاشكال المساواة هنا. طرح السؤال مجددا: ما هو الاصلاح؟اين الخلل في اعلاه؟ وكيف يجب ان تكون حركة الاصلاح. من اين يجب ان تبدأ. كل المحاولات السابقة التي ارادت تقديم تفسيرات «عصرية» كانت محاولات تلطيفية. ادوات تجميل. لأن استخدام المنطق ذاته في تفسير القرآن لم يحل لنا الكثير من المشاكل. ولأن التفسيرات تلك هي نفسها التي انتجت الاسلام السياسي المتطرف ويكفينا الاختباء خلف اصابعنا والقول بأن «ابن لادن» هو ولد عاق للاسلام. الحكم المطلق الممنوح لطبقة الملالي في ايران ولـ«الولي الفقيه» هو نتاج عقلية لا ترى في تفسيرها للاسلام مكانا لحقوق المرأة، ولا لحقوق الانسان كحقوق طبيعية لا يستطيع حتى الولي الفقيه ان ينتزعها. فتوى اية الله الخميني في قتل سلمان رشدي تنبع من نفس فكرة الردع القاسي لأي محاولة فهم مختلفة، جيدة كانت ام سيئة. لم يستطع احد ان يصيب لب المشكلة الا الذين انطلقوا من الاساس الذي سيقلب كل المفاهيم الاسلامية ويحدث النهضة: كيفية النظر الى النص القرآني، وكيفية تفسيره. وفي كل فترة زمينة رأينا ان من تصدى لهذه الفكرة حورب فحُجّم. محمد عبدو قال ذلك صراحه، لكنه لم يذهب بعيدا رغم ان كتاباته تضمر الكثير مما لا يستطيع الافصاح عنه. حتى انه وقف صامتا امام كتابات قاسم امين فلم ينتقدها، محاولة بدت قبولا بانتقاداته التي وجهها امين الى موقف الفهم الاسلامي التقليدي من المرأة. على كل، لم يواجه التجديد في العالم الاسلامي نفس الترحيب ودائما كان السبب سلطة الدولة. على ان مواجهة الاصلاح اختلف من دولة الى اخرى. في مصر جرت محاولات عديدة من قبل اكاديميين في جامعة القاهرة، في بدايات القرن الماضي، للعمل على تجديد آليات تفسير القرآن ولم تكن نتيجتها مشجعة للمضي في البحث الفكري. وتميزت محاولات التجديد انها جاءت من قبل لغويين وليس من داخل المؤسسة الدينية، الازهر. في ايران لا يتحرك التجديد الفكري بشكل مريح رغم انه يمتلك هناك حرية اكثر من تلك الموجودة العالم العربي. لكن المثير للدهشة هي قابلية الحوزة الدينية في ايران (والمدرسة الشيعية عموما) لطرح الافكار الجديدة اكثر من المدرسة السنية مقارنة بالازهر. ففي مصر حوكم طه حسين لأنه تجرأ وقال بأن القصص القرآني هي روائية للعبرة وليست تأريخا للاحداث حتى انه اضطر الى حذف جمل من كتابه في «الشعر الجاهلي». امين الخولي، ايضا، حاول تطبيق النظريات الحديثة في الادب في تفسير القرآن فعزل من جامعة القاهرة، ومنع من الاشراف على الدراسات القرآنية. احمد خلف الله، تلميذ الخولي، اشتغل على تجميع القصص القرآني ثم ترتيبها زمنيا (ترتيب نزول) ثم حلل النص طبقا للبعد الاجتماعي البيئي والحالة النفسية للمتلقي وتتبع تطور الرسالة القرآنية عبر النزول الزمني في محاولة لفهم النص كما فهمه المسلمون الاوائل. وهو بذلك مهد الطريق امام نصر حامد ابو زيد لتطبيق منهجية التفسير الحديث للنصوص (الهيرمنيوطيقا). فالمسلمون يستطيعون ان يؤمنوا بالقرآن دون ان يأخذوا آياته بحرفيتها ويفسروها بطريقة مباشرة قد لا تعطي دوما نتائج منطقية. الا ان خلف الله واجه ايضا تعنتا ونقل من قسم الدراسات القرآنية في جامعة القاهرة الى قسم اللغة في محاولة لمنعه من المضي في دراساته.في ايران كانت الحركة التجديدية اكثر راحة وداينميكية من العالم العربي. الفيلسوف الايراني «عبدالكريم سوروش» رأى ان الاسلام والديمقراطية لا يتعارضان، رغم انه هوجم وهدد بالقتل. الشيخ مرتضى مطهري، عالم في الالهيات الاسلامية، قال مرة «بأن الاصلاح لن يأتي من قبل علماء الإلهيات وفقهاء الاسلام» وهو موقف متقدم مقارنة بمواقف علماء المسلمين العرب. الشيخ محمد مجتهد شابستاري تكلم عن استخدام منهجيات الادب الحديث (وهو ما قال به ابوزيد الذي اتهم بالردة وجرت محاولات لتطليقه من زوجته في مصر) على الاخص منهجية الهيرمنيوطيقا ورآى انه فقط بذلك نستطيع ان نحل الكثير من المعضلات التي تبدو تناقضات اذا ما فسرت على الطريقة التقليدية للعلماء المسلمين. وهذا كله يناقض الموقف الرسمي الايراني الذي لا يناسبه تغير الوضع القائم وفقده لامتيازاته. لذلك انتشر مصطلح «الفاشية الاسلامية» في ايران من قبل المفكر الاجتماعي «اكبر جانجي» الذي سجن في ايران بسبب ارائه وتحول الى بطل للطلاب الطامحين للتغيير. نفس المصطلح استخدمه الرئيس محمد خاتمي الذي لم يستطع ان يدير سفينة الاصلاح في ايران بسبب حماقة السياسة الاميركية التي اعطت للمحافظين حججا للانتصار لآرائهم. ووصل امر الافكار التجديدية ان صرح حجة الاسلام الشيخ عبدالله نوري بحرية المعتقد وهذا يخالف موقف الدولة الايرانية من اسلام النظام الرسمي.نصر حامد ابو زيدغير ان آخر مظاهر الاصلاح في العشرين سنة الاخيرة تركزت في النظرية التي اعاد احياءها الدكتور نصر حامد ابو زيد. ولم يكن فكر ابو زيد اختراعا جديدا بل هو يمتد جذوره الى المعتزلة الذين رأوا ان العقل هو الحاكم في تفسير القرآن. ورتبوا على ذلك نتيجه لو تسنى لها الحياة لكنا الآن في مكان آخر غير الذي نحن فيه اليوم. والذي قام به ابو زيد هو ان اعتبر ان القرآن رغم انه إلهي المصدر الا انه بشري التبليغ وعليه فإن التعامل مع النص القرآني يحب ان يتم ضمن المنطق الذي
يحكم العقل البشري. ومن ثم اذا حدث تعارض مع العقل البشري فيجب استخدام التأويل.احدث طرح ابو زيد جدلا واسعا في مصر ومن ثم في العالم الاسلامي واتهم بالارتداد على الاسلام وجرت محاولات محاكمته وتطليقه من زوجته واضطر من بعدها الى الهجرة الى هولنده حيث تسلم قسم الدراسات الاسلامية. اما ما هي تفاصيل نظرية ابو زيد في التفسير وتطبيق منهج الهيرمنيوطيقا على النص القرآني وما النتائج التي يخرج بها هذا البحث، فستكون موضوع الجزء القادم من هذه المقالة للاسبوع المقبل.
Leave a Reply