لا زلت في ممارستي الكتابة الأسبوعية أستخدم القلم. لم يجذبني حتى الآن الـ»كي بورد« الذي بات الوسيلة الأكثر شيوعاً ربما، في عالم الكتاب الصحفيين، الغربيين على الأقل. ولا يبدو أنني سأنجذب الى التخلي عن القلم والإستعاضة عنه برؤوس الأصابع لأنقر كلماتي وأفكاري على الـ»كي بورد«. فعلاقتي مع القلم أكثر من مجرد علاقة استخدام لقطعة »ميتة« من البلاستيك أو الحديد مملوءة بالحبر. إنها علاقة صداقة ودرب طويلة إمتدت منذ أن أشرف معلّمنا الأول على مقاعد الدراسة على تلقيننا أصول الإمساك بالقلم الذي ابتدأ »رصاصياً« وتحوّل الى الحبر السائل فالحبر الجاف…
والأقلام أنواع، والكاتب المتمرس يحاول دائما إختيار الأجود والأسلس في سبك أفكاره على الأوراق البيضاء، وقد لا يكون مجافياً للحقيقة الزعم بأن بعض الأقلام لها »حضور« على الصفحات أكثر من غيرها، وتساعد الكاتب »نفسياً« على تحرير كلماته وأفكاره بإنسياب أكبر.
اليوم أكتب بقلم يحمل دمغة الـ»سي آي أي« جلبه لي أحد الحضور من الإفطار الرمضاني الذي أقامته »وكالة الاستخبارات المركزية« للجالية العربية والمسلمة في منطقة ديترويت بحضور مديرها ليون بانيتا، في قاعة نادي بنت جبيل في ديربورن مساء الأربعاء الماضي. القلم الذي يبدو أن الوكالة وزعت نسخاً منه على الحضور عربون صداقة مأمولة، موضّب في علبة كرتونية سوداء من الخارج عليها شعار الوكالة وعنوانها الإلكتروني وعبارة تقول: »عمل أمة. مركز المخابرات« وتحتضنه علبة بلاستيكية من الداخل تحمل ماركة الشركة المصنّعة وإسمها »القلم الفضائي« معززة بصورة مكوك أميركي عائد من رحلة في الفضاء الخارجي، كرمز للقوة العلمية الأميركية التي بلا شك جعلت أميركا أعظم قوة في العالم، ولا تزال.
وقلم الـ»سي آي أي« الذي أغراني بتجريبه لكتابة هذه الإنطباعات والذي أرادت الوكالة من خلاله مد جسور فكرية معنا، يحمل من الغموض في الشكل ما يدفعك الى القيام بجهد »إستخباري« لإكتشاف طبيعته. للوهلة الأولى تظن أن ما بين يديك رصاصة فضية على هيئة اسطوانية واحدة مع ميل الى تجاوز الطول المعتاد للرصاصة.
ليس بيني وبين الـ»سي آي أي« ودٌ مفقود، فأنا مواطن أميركي ينظر الى هذه المؤسسة الفيدرالية باعتبارها ركيزة حماية الأمن الخارجي الأميركي. وأعلم أن مديرها الجديد، على غرار الرئيس باراك أوباما، يطمح الى بناء علاقة تعاون وعمل مع الجاليات العربية والمسلمة الأميركية لما فيه مصلحة الأمن القومي الأميركي، وأتمنى أن يكون قد نجح في تقديم نفسه ووكالته لجمهور الحضور من الجالية بصورة مثمرة. وأعلم أن الوكالة تحاول نزع الصورة غير الوردية عنها المطبوعة في أذهان العرب والمسلمين، بسبب ممارسات شنيعة يشتبه أن الوكالة إرتكبتها بحق شعوبهم عبر تاريخها الطويل. وأعلم أيضاً أن الوكالة تسعى الى توظيف عرب ومسلمين أميركيين في صفوفها لتحسين قدراتها الإستخباراتية ولتعزيز الشعور الوطني الأميركي لدى هذه الشريحة المتنامية من الأميركيين. ولا يخفى أن الوكالة جنّدت عبر السنين الطويلة قادة وزعماء عرب ومسلمين في صفوفها من رتبة رؤساء جمهورية وملوك وأمراء قدموا لها خدمات جليلة. حدث ذلك عندما كانت صورة أميركا في أذهان شعوبهم، صورة »العدو« المتآمر على قضاياهم وحقوقهم.
لكن الوكالة في عهد الرئيس باراك أوباما، ذي الجذور الإسلامية، ترغب، على ما يبدو، في تغيير »سلوكها« وبالتالي المفهوم »الخاطئ« عن طبيعة عملها، ربما لقناعة إستجدت لدى القيمين عليها ان كسب قلوب العرب والمسلمين واجتذابهم اليها، أجدى من محاربتهم بأحابيلها الصامتة، ومحاولة إخضاعهم بالتآمر والمناورات التي لا تقود سوى الى المزيد من الحذر والخوف من إسمها.
لا أدري مدى التأثير الذي أحدثه الإفطار الرمضاني الذي نظمته الـ»سي آي أي« لحشد من المؤمنين في إحدى »ليالي العشر الأواخر« من الشهر الفضيل، لكنني أشعر بأن قلمها، رغم هيبة شكله الخارجي ليس من النوع الذي يصلح للكتابة المطوّلة. لذا أنهي هذه الإنطباعات بقلم الـ»سي آي أي« وأعود الى قلمي المعتاد، للكتابة عن أمور أخرى قد لا تخرج عن نطاق إهتمام الوكالة، مع الإعتذار منها إذا كنت قد أسأت الأدب »في مكان ما« (بالإذن من وليد جنبلاط) بحق »قلمها الفضائي«.
Leave a Reply