وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
التصعيد العسكري المستمر في الشمال السوري والذي أدى إلى مقتل عدد من عناصر الجيش التركي بنيران القوات السورية المتقدمة نحو ما تبقى من مناطق تحت سيطرة الجماعات المسلحة، بدأ يُدخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في متاهات الحرج الشديد أمام قاعدته الانتخابية، وها هو ينعطف مجدداً باتجاه الولايات المتحدة على حساب علاقته بروسيا.
مجريات الأوضاع الميدانية التي تأخذ منذ فترة منحى تصاعدياً، تنبئ باحتمال تدهور الأمور نحو ما هو أسوأ وسط إصرار واضح من الجيش السوري على استعادة زمام الأمور والإمساك بالأرض من جديد، ودعم روسي حاسم، لم ينجح أردوغان حتى الآن في ثنيه رغم مباحثاته مع الرئيس الروسي فلاديمير حول إدلب والأضرار التي ألحقها الجيش السوري بالقوات التركية.
تطورات الميدان
في آخر تطورات الوضع الميداني، بسط الجيش السوري سيطرته على قرى وتلال في جنوب وغرب حلب، بعد معارك مع «جبهة النصرة» والفصائل المرتبطة بها. كذلك استعاد الجيش السوري سيطرته على قرى في أقصى ريف إدلب الشرقي بعد معارك عنيفة مع المسلحين، فيما تواصل القوات تقدمها نحو مدينة إدلب عبر عدة محاور.
وكانت إدارة الدفاع الوطني الروسي قد أشارت إلى عثور الجيش السوري على كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد العسكري، تركها المسلحون خلفهم أثناء فرارهم أمام عمليات الجيش السوري، وهو ما يدل على استمرار الدعم الغربي للإرهابيين، وفق موسكو.
أما القيادة العامة للجيش والقوات السورية المسلحة فقد أشارت إلى أن النظام التركي عمد إلى زج حشود عسكرية جديدة، وتصعيد عدوانه بشكل مكثف من خلال استهداف المناطق المأهولة بالسكان المدنيين ونقاط تمركز الوحدات العسكرية بالقذائف الصاروخية، وذلك كله بغية مساعدة الجماعات على الاستمرار في السيطرة على الأرض واتخاذ المدنيين دروعاً بشرية. وقد أكدت وزارة الدفاع الروسية أن الوضع في محافظة إدلب يتفاقم بشكل كبير بسبب إدخال النظام التركي أسلحة وذخيرة ومدرعات تركية إليها.
واشنطن تقف مع تركيا
على لسان مبعوثها الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن واشنطن تفكر بدعم الجيش التركي في إدلب عبر تقديم معلومات استخبارية ومعدات عسكرية.
وقال جيفري في حديث تلفزيوني أدلى به أثناء زيارة قام بها إلى أنقرة، إن بلاده تنظر في سبل تقديم الدعم لتركيا في إدلب ضمن إطار حلف «الناتو»، مستبعداً توسع نطاق النزاع في الساحة السورية، بانخراط الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإسرائيل، معتبراً أن هؤلاء اللاعبين الكبار يتوخون أقصى درجات الحذر في تحركاتهم.
ورغم التقارب التركي الأميركي الأخير على وقع الأحداث في إدلب، لا يرى الكاتب والباحث السياسي التركي فراس رضوان أوغلو، في التصعيد الحاصل في شمال سوريا استدارة تركية جديدة باتجاه الحضن الأميركي والأطلسي على حساب التقارب مع روسيا.
فأنقرة تعمل منذ البداية على إقامة توازن في علاقتها بين الطرفين، ويجب ألا يُستخف بقوتها العسكرية لاسيما على حدودها، وفقاً لأوغلو. وهناك عدة عوامل في هذا السياق، منها أن التوازن الأميركي الروسي قائم والخلاف التركي الأميركي والتركي الروسي أيضاً قائم، وقد تم تأجيل الخلاف حول إدلب، وما يحدث اليوم هو نتيجة هذا التأجيل. ولكن أين الحل؟
تركيا تجد نفسها اليوم أمام خطر داهم يتمثل في وجود أربعة ملايين نازح إضافي قد يتجهون إلى أراضيها، وليس هناك توجه نحو حل ما للأزمة. وهذا، من الناحية الأمنية، يشكل خطراً كبيراً على تركيا، إضافة إلى خطر اجتماعي وسياسي سيكون له تأثيره في الانتخابات من دون شك.
وعن مقتل عدد من الجنود الأتراك، يقول أوغلو إن التركي هو مَن يتوغل في الأراضي السورية، ومن الطبيعي أن تحدث أمور من هذا النوع، لكن هنالك اتفاق تركي روسي بالوكالة عن دمشق، يحول دون تدهور الأمور إلى مواجهة أكبر.
مبررات التوغل التركي
يقول أوغلو إن هناك ثمانية ملايين من المدنيين في المنطقة المحاذية للحدود التركية، لذلك لدى أنقرة الحق والمسوّغ القانوني للتدخل بسبب الفوضى الناجمة عن القتال الدائر بين السلطة السورية وبعض الجماعات المسلحة، و«لو أن الوضع في سوريا اليوم هو كما كان عليه قبل عام 2011 لاختلفت الأمور تماماً ولاعتُبر التدخل التركي توغلاً في أراضي دولة مجاورة ذات سيادة».
ويشير أوغلو إلى أنه لو كان ما يحصل اليوم في سوريا قد حصل في تركيا لكان من حق سوريا الدخول إلى تركيا للحد من تدفق اللاجئين إلى أراضيها ودرء المخاطر الأخرى التي قد تنتج عن صراعات مماثلة، متمثلاً بما فعلته «مصر في ليبيا يوم شعرت بتهديد إرهابي مصدره طرابلس»، مؤكداً أن هذا حق طبيعي ومتعارف عليه بين الدول، «لكن المشكلة هنا تكمن في وجود بعض الثغرات في القوانين، وبأن الجميع يستغل تلك الثغرات، ولا سيما مع وجود أكثر من عشرين دولة على الأراضي السورية».
الخطر السوري
التنسيق مع الدولة السورية على مستوى متقدم قد يقضي على الهواجس التركية الناجمة عن وجود الحركات الانفصالية الكردية ومنع تدفق اللاجئين وهو ما يصب في مصلحة الدولتين فلِمَ لا تقدم تركيا على ذلك؟
يقول أوغلو إن التنسيق يكون عادة على مستويات متعددة منها ما هو استراتيجي ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو أمني، وكلها اليوم غائبة ولا يوجد تنسيق حالياً سوى على المستوى الاستخباري، ويلفت أوغلو إلى وجود مشكلة بالنسبة إلى تركيا في كل من شرق سوريا وغربها، و«تتركز المشكلة أكثر في الشرق حيث يوجد التنطيم الإرهاربي الكردي الخطير حزب العمال الكردستاني، وفي الغرب حيث مشكلة ملايين النازحين باتجاه تركيا، وهاتان المشكلتان لم تُحلا، إضافة إلى عدم وجود تطمينات لقوى المعارضة». كما يؤكد أوغلو أن عقدة الخلاف تكمن في مسألة الاعتراف بتلك المعارضة.
ورغم تأكيد أوغلو على وجود جماعات مسلحة «غير إرهابية»، إلا أن الواقع الميداني يشي بأن «جبهة النصرة» هي العمود الفقري للجماعات التي تقاتل على الأرض، وهي مصنفة دولياً على أنها حركة إرهابية،
لكن أوغلو يشير إلى الجيش الوطني البديل الذي أنشأته تركيا والذي يقارب تعداده نحو 120 ألف مقاتل بحسب قوله، «فيما لا تضم جبهة النصرة وحلفاؤها أكثر من 10 آلاف مقاتل».
ولدى سؤاله عما إذا كان إنشاء «الجيش الوطني البديل» تدخلاً تركياً سافراً في الشؤون السورية، يجيب أوغلو إن إنشاء هذا الجيش كان بهدف إنجاح الحل السياسي!
العلاقة مع روسيا
يؤكد أوغلو وجود تدخلات دولية في الشأن السوري من قبل جهات عديدة مثل إسرائيل وفرنسا والاتحاد الأوروبي وروسيا وإيران والعراق في إطار المصالح الخاصة لكل من تلك الدول، مشيراً إلى أن لكل من واشنطن وموسكو وأنقرة رؤى سياسية للحل لكنها رؤى متعارضة.
في السياق، يعتبر أوغلو أن لروسيا باعاً طويلاً في التفاوض، وتركيا أيضاً تبحث عن مصالحها مع روسيا، حيث من المتوقع أن يصل التعاون الاقتصادي بين البلدين إلى نحو مئة مليار دولار وهو رقم لم تبلغه تركيا حتى في تجارتها مع الولايات المتحدة. تلك الحسابات موجودة على الطاولة، لكن لن يتنازل أحد من الأطراف حتى الرمق الأخير، مؤكداً أن لعبة عض الأصابع ستستمر حتى اللحظات الأخيرة قبل الصدام.
ولا شك في أن تركيا تريد صيغة حل مناسبة مع روسيا، لأن توسيع نطاق الصراع بين سوريا وتركيا ليس من مصلحة أنقرة، ولذلك، يستبعد أوغلو تدحرج الأمور نحو مواجهة واسعة، «فهناك براغماتية وتقاطع مصالح لدى الجميع والكل يعلم أن الحرب ستدمر الجميع»، ولا سيما في ظل وجود حدود مشتركة كما هي الحال بين سوريا وتركيا.
حرج أردوغان
عن المعارضة في الداخل، ومدى قدرة أردوغان على امتصاص الضغوط عليه، يقول أوغلو إن المعارضة قوية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، لاسيما بعد سقوط عدد من القتلى من الجيش التركي، فقد أصبح أردوغان في موقف سيء للغاية، لذلك سيسعى للظهور أمام ناخبيه بمظهر القائد القوي، ولكن في حال حصول هجوم جديد على الجيش التركي وسقوط المزيد من القتلى، فإن الرئيس التركي قد يضطر إلى اتخاذ قرار هجومي رغم أن ذلك ستكون له تبعات كارثية على الجميع، وإذا لم يفعل شيئاً فإن الانتخابات المقبلة لن تكون في صالحه.
قد يكون المسار السلمي هو المخرج الأمثل للجميع، فروسيا مستمرة في توجهها نحو التفاوض، والولايات المتحدة لا تريد التصعيد، وأيضاً دول الاتحاد الأوروبي ستبدأ في التفكير بإعادة الإعمار، وهو ما سيستلزم فرض شروط سياسية على دمشق، وفقاً لأوغلو.
Leave a Reply