وليد مرمر
لقد تم اجتثاث البعث من الدولة العراقية ولكن البعث الحقيقي للعراق –مهد الحضارات والأديان– ما زال متعثراً إن لم نقل متعذراً. فما نراه بعد ما يقارب من عشرين عاماً على قيام العراق الجديد ليس إلا انهياراً متسارعاً لمؤسسات الدولة وبنيتها التحتية وذلك مع تفشي الفساد والأمية والبطالة والمخدرات وارتفاع حالات الطلاق وغيرها من المشاكل التي تنذر بانهيار اجتماعي وشيك.
ما رأي الباحث العراقي أحمد الكاتب في التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة العراقية سيما بعد أحداث 29 أغسطس الدموية في بغداد عقب إعلان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر انسحابه من الحياة السياسية بسبب استمرار الأزمة السياسية في البلاد وبعد قيام أنصاره باقتحام المنطقة الخضراء والدخول إلى القصر الرئاسي ومقر الحكومة.
■ ذكرت شبكة «سي أن أن» الأميركية أن العراق عاش «24 ساعة من الفوضى التامة» وأن ذلك أظهر قدرة مقتدى الصدر على استعمال العنف وأنه «لاعب رئيسي». لكن إنهاء الاشتباكات لا يعني بالضرورة، نهاية الأزمة. هل كانت اشتباكات المنطقة الخضراء محاولة انقلاب من التيار الصدري كما يقول البعض؟ وإذا كان ذلك صحيحاً، فلماذا أحبط الصدر نفسه، الانقلاب إذن؟
– في الحقيقة هذه حلقة من سلسلة من الأحداث في محاولة بناء النظام العراقي الجديد الذي يعيش مخاض الانتقال من المرحلة الدكتاتورية السابقة المترسخة في العمق الثقافي، أضف إلى ذلك، الموروث الديني الذي مازال ينبذ الشورى ولا يؤمن بالعملية الديمقراطية. لقد حل المرجع محل المعصوم وأصبح شبه معصوم أو شبه مقدس فـ«الراد عليهم كالراد علينا والراد علينا كالراد على الله»، حسب الأثر الذي يتناقلونه عن الإمام الثاني عشر.
هذه التجربة الديمقراطية طرية العود التي عاشها العراق خلال ما يقارب من العشرين سنة الماضية كانت حافلة بالأخطاء والثغرات الدستورية مما أدى إلى فشل النظام في تلبية حاجات الناس ولاحقاً تعاظم الفساد فولدت هذه الأزمة.
السيد مقتدى الصدر رفض هذا النظام وهو يصر على تعطيله باحتلال البرلمان منذ حوالي شهرين ومنع تشكيل حكومة جديدة لا يوافق عليها. ثم حدثت الملابسات الأخيرة –أي محاولة احتلال القضاء ثم تراجع عنها بسرعة في نفس اليوم. ثم جاءت محاولتا احتلال القصرين الجمهوري والحكومي وأيضاً اعتقال السيد نوري المالكي في المنطقة الخضراء عندما توجه البعض من ميلشيا «سرايا السلام» التابعة للسيد مقتدى الصدر إلى بيت المالكي وحصول اشتباك أدى إلى سقوط قتلى وجرحى. فما حصل بدا كأنه، حسب تصريحات أنصار «الإطار التنسيقي»، بدا وكأنه محاولة انقلاب للسيطرة على مؤسسات الدولة، البرلمان والقصر الحكومي والقصر الجمهوري. أوليس هذا انقلاباً؟ ولكني أعتقد أن هذا لم يكن موجهاً بشكل مباشر من السيد مقتدى الصدر بل كان بتصرف من مجموعات تابعة لـ«سرايا السلام».
■ مواقف السيد الصدر تدرجت من الاستقالة الجماعية من البرلمان إلى الاستقالة من العمل السياسي، وصولاً إلى «الغاندية السياسية» التي تمثلت بإعلانه عن بدء الصيام عن الطعام حتى خروج مناصريه من الساحات. هل تصب هذه المواقف في خانة التذبذب السياسي أم المناورات أم أنها برأيكم خطوات فعالة في إيجاد خرق ما في الجمود السياسي القائم؟
– نعم هناك نوع من التذبذب في المواقف. فلقد أعلن السيد الصدر أكثر من مرة عدم رغبته بالمشاركة في الانتخابات ثم لاحقاً شارك فيها. ويبدو أن مواقفه تتغير حسب الظروف السياسية. لم يستطع الصدر أن يكون اللاعب الأبرز في تشكيل الحكومة وفي نفس الوقت يرفض أن يشكلها غيره. كانت هناك دعوات معلنة من التيار الصدري لإلغاء الدستور. ولكن رفْض العمل بالدستور ليس مسألة مزاجية. فتعديل الدستور أو إلغاؤه يعود للشعب العراقي الذي صوت على الدستور رغم وجود بعض المقاطعة وقتئذ. السيد مقتدى الصدر كان منخرطاً في العملية السياسية، وحتى هذه الحكومة هي حكومة السيد مقتدى الصدر. فمصطفى الكاظمي جاء برغبته. فلماذا الآن الانقلاب على الدستور؟ هناك سياقات دستورية يجب العمل بها ولكن الصدر يرفضها ويمنع تشكيل الحكومة وهذا يعتبر نوعاً من الانقلاب على الدستور سيما مع ما رافقه من احتلال لمؤسسات الدولة.
■ دعا صالح محمد العراقي، المعروف بـ«وزير الصدر» ، قائد القوات المسلحة في البلاد إلى إبعاد «الحشد الشعبي» عن المنافذ الحدودية وإنهاء تواجده في المنطقة الخضراء وفي المناطق الحساسة في الدولة. ومن المقترحات التى ذكرها، تغيير مسؤول الحشد (فالح الفياض) لأنه برأيه متحزّب ورئيس كتلة. كما ودعا لحل الفصائل التي تدّعي المقاومة وتقتل الشعب، حسب قوله، وطلب أيضاً من زعيم «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي «كبح جماح ميليشياته» و«البراءة من القتلة والمجرمين». هل هذه شروط محقة أم تعجيزية؟
– هذه مجرد اتهامات إعلامية. فإذا انتقد صالح العراقي «عصائب أهل الحق» المنضوية في «الإطار» فهو أيضاً يملك ميليشيا نزلت إلى الشوارع علناً واحتلت المنطقة الخضراء وأحرقت أماكن وقامت بأعمال عنف. فلو كان يدعو إلى حل الميليشيات فالأحرى أن يبدأ زعيمه الصدر بحل «سرايا السلام». هناك من يعتبر البشمركة ميليشيا أيضاً لأنها لا تخضع للدولة المركزية وهذا يُعتبر نوع من التمرد. هذه كلها اتهامات إعلامية لا ينبغي التوقف عندها.
■ سؤال يطرح نفسه بقوة: أين المرجعية من كل ما يجري سيما إن ما يجري يهدد مؤسسات الدولة والنظام الذي يدعمه السيد السيستاني. وهل هناك مسوغ لغياب صوت المرجعية في هذا الوقت العصيب؟
– هذا في الحقيقة سؤال محير. المرجعية انسحبت من العمل السياسي بل وحتى من الإشراف على النظام. هناك دستوران في العراق. دستور مكتوب ودستور أعلى وأقوى وأمتن وأكثر شرعية هو المرجعية. المرجع هو ولي أمر المسلمين وهو الحاكم الشرعي ونائب الإمام المهدي، أي هو الدستور الأعلى. وحتى أن الحكومة نفسها ترجع إلى السيد السيستاني. فمثلاً، تدخلت المرجعية في دفع إبراهيم الجعفري للاستقالة عندما فاز في الانتخابات عام 2006 وأيضاً دعت إلى استقالة المالكي عام 2014. وبعد ذلك فرضت المرجعية حكومة عادل عبدالمهدي ثم دعت إلى استقالتها. وفيما خص الأحداث الأخيرة فيبدو أن السيد السيستاني لا يتابع ما يجري أو أنه في صحة لا تسمح له بذلك. وفي كل الاحوال فإن ابنه (محمد رضا) يتابع ما يجري وهو يدلي بدلوه أحياناً في مسار العملية السياسية. أما صمت المرجعية الآن عما يجري فهو أمر محير فعلاً، سيما وأنها الوحيدة القادرة على سحب فتيل التوتر بين التيار الصدري و«الإطار التنسيقي» المتناحرين. فحتى العشائر تدخلت لحل الخلافات بين الطرفين. أنا لا أفهم سبب عدم تدخل المرجعية. كنت أظن أن السيد السيستاني كان قد أوعز للسيد الصدر بالاستقالة من العمل السياسي. ولكني علمت لاحقاً أن ذلك كان كنتيجة لسحب السيد كاظم الحائري، للشرعية من التيار الصدري.
■ بما أنكم ذكرتم السيد الحائري. هل برأيكم أن استقالته من سدة المرجعية والطلب من مقلديه بالتحول إلى تقليد السيد علي خامنئي كانت «ضربة معلم في هذا التوقيت». سيما أنه يعتبر مرجع «الدعوة» كما أن السيد مقتدى الصدر والكثير من أنصاره هم من مقلديه.
– أنا لا أعتبر أن الاستقالة كانت موفقة. السيد كاظم الحائري ليس فقيه الدعوة. هو كان قد رُشح في مؤتمر عام 1980 ليكون فقيه الدعوة. وربما ظن حينها أنه سيكون قائد «حزب الدعوة». ولكن الحزب أعلمه أن دوره يقتصر على الاستشارة ذلك أن الحزب كان لديه مكتب سياسي يقرر الأمور السياسية. وبعد ذلك تم «حذف» دور المرجع من النظام الداخلي لـ«حزب الدعوة»، وعندها طلب السيد الحائري من الحزب الرجوع إلى الإمام الخميني لينتدب لهم ممثلاً من أجل أن يحظى عملهم بالشرعية الدينية. وكانت هذه نظرية السيد الحائري والسيد محمد الشيرازي وغيرهم. ولدى طلب «حزب الدعوة» من الشيخ منتظري نائب الامام الخميني انتداب ممثل لدى الحزب أبلغهم الشيخ منتظري أنه لا داعي لذلك وأن عمل حزب الدعوة السياسي شرعي بذاته. لقد قام السيد محمد صادق الصدر والد السيد مقتدى الصدر بإعلام مناصريه بالرجوع بالتقليد إلى السيد كاظم الحائري بعد وفاته. وهذا ما حصل. وأنا لا أتحدث الآن عن مشروعية أو وجوب التقليد سيما في الأمور السياسية ولكنني فقط أروي ما جرى. وهكذا قام السيد مقتدى الصدر مع الكثير من أتباع التيار الصدري بتقليد السيد كاظم الحائري. هذه المرة الأولى التي يصرح فيها مرجع ديني أنه قد أصبح كبير السن وبالتالي سيستقيل من المرجعية. لقد وفر السيد الحائري غطاء شرعياً للتيار الصدري ولكنه قام لاحقاً بسحب الوكالة من الصدر عام 2008 بعد الاشتباكات بين التيار الصدري وحكومة نوري المالكي. ولكن بقيت العلاقات إيجابية بين الطرفين وإن بحدودها الدنيا.
■ إذن ورغم عدم موافقتكم على المنهجية السياسية المتبعة من قبل التيار الصدري إلا أنكم لا تشترطون مباركة «المرجعية» لتصبح مشاركته السياسية «شرعية»، وأنتم بالتالي ضد سحب الحائري للبساط من تحت قدمي الصدر.
– هو لا يحتاج أساساً إلى هذا البساط. فالعمل السياسي بحد ذاته لا يحتاج إلى تغطية شرعية من أي مرجع سواء من داخل أو خارج العراق. ومع ذلك فالإخراج الذي تم (استقالة الحائري) كان أشبه بموقف سياسي لتطويق السيد مقتدى الصدر. ولقد استجاب السيد الصدر لموقف الحائري وأعلن اعتزاله العمل السياسي رغم قناعته بأن موقف الحائري لم يكن من محض إرادته كما صرح. ولكن أنصاره رفضوا اعتزاله وحصل ما حصل من الأحداث الأليمة. ثم هدد السيد الصدر عقب ذلك مباشرة، بالتبرؤ من كل من لا يخلي الساحات للقوى الأمنية الشرعية فسحب فتيل الفتنة. وبالعودة إلى السؤال الأول فأنا لا أجد أن السيد الصدر بحاجة إلى غطاء (مرجعي) للعمل السياسي. إن نظرية الغطاء (المرجعي) مخالفة للدستورين العراقي والإيراني أيضاً. فالأحزاب تستطيع العمل من دون الحاجة إلى الشرعية «المرجعية».
■ هل ما زلتم تظنون أن النظام الرئاسي قد يكون أحد الحلول الناجعة لأزمة النظام العراقي؟
– نعم هناك دعوات لبعض السياسيين والوزراء والنواب في هذا السياق. إن مشكلة هذا النظام الرئيسة هي الضعف والتفكك وعدم قدرة رئيس الوزراء على إدارة البلد بالشكل الفعال وذلك لتعدد الولاءات واختلافها للوزراء. فكل وزير يعمل بشكل مستقل وتبعاً لتعليمات كتلته وليس لرئيس الوزراء. فالبلد مفكك ولا محيص من وجود رئيس واحد قوي يشكل ملاذاً للجميع ويشكل ضمانة لكل الطوائف والمذاهب والأعراق. النظام الرئاسي يعطي قوة للرئيس يفتقدها النظام الحالي. السيد السيستاني، وعبر ولده محمد رضا، رفض سابقاً (عام 2019) تعديل الدستور ليصبح رئاسياً. وأظن أنه على المرجعية أن تعيد النظر بذلك بغية إصلاح النظام وتقويته للقضاء على الفساد وبناء الدولة.
Leave a Reply