محمد العزير
نقل تقرير للزميل حسن عباس في العدد الأخير من «صدى الوطن» رفض المسلمين الأميركيين في مدينة ألبكيركي في ولاية نيومكسيكو اعتبار المذهبية سبباً لجرائم القتل التي طالت اربعة رجال من مهاجري أفغانستان وباكستان، والتي وجهت الشرطة تهمة تنفيذها إلى المهاجر الأفغاني محمد سيد (51 عاماً)، بعدما أشارت تقارير إعلامية إلى أن المتهم السني المذهب أقدم على استهداف ضحاياه لأنهم من الشيعة، انتقاماً من ابنته التي تزوجت زميلها الجامعي الشيعي، وهو ما تبناه مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية CAIR واللجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز ADC وتحالف العدالة الشيعي SRJC.
من الطبيعي أن تسارع المؤسسات الدينية الإسلامية المحلية وبعض أهالي الضحايا إلى التقليل من شأن العوامل الطائفية والمذهبية في حالة كهذه، ومن المنطقي والمتوقع أن يحاول رجال الدين تحديداً نفي وجود أية دوافع مذهبية لجريمة من هذا النوع وإعطاء انطباع إيجابي عن المودة والوئام بين أتباع الدين الحنيف من رواد مساجدهم ومؤسساتهم، ولا بأس بادعاء وجود أسباب أخرى وغايات وراء المسألة، فلا أحد يرغب أن يكون موضع اتهام ولا أحد يحبّذ نشر الغسيل الوسخ.
لكن الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن الغسيل وسخ جداً. ومع الاحترام الواجب لبعض الأصوات الصادقة، وبعيداً عن التعميم المؤذي، لا بد من مواجهة الحقيقة اذا كان المطلوب حقاً الوصول إلى الصورة الوردية عن علاقات المؤمنين، وليس الاختباء خلف الأصبع الأقلوي الخائف من محيطه والمرعوب أكثر من الاعتراف بالواقع كما هو أو فتح الباب أمام الأسئلة الملحّة عن المسؤولية في تأجيج المشاعر الطائفية والمذهبية وإبقاء جمر الفتنة مؤججاً.
لا يجادل من يعرف أحوال العرب والمسلمين الأميركيين في أن الحال لا تسر، فالضغائن والأحقاد والمظلوميات هي الأكثر تداولاً خصوصاً بعد الانكفاء المدني المؤسسي عقب الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن عام 2001، واستفراد المؤسسات الدينية مسيحية وإسلامية على السواء بجمهور وضعته أحداث لا يد له فيها، في عين العاصفة الهوجاء التي زادت منها أحوال الوطن الأم سخطاً واستياء وغضباً، لتتكرس خطوط الخريطة الطائفية واضحة وتشتعل الخطوط المذهبية تماماً.
لعب رجال الدين وخصوصاً المشايخ في مؤسساتهم المنتشرة بحرية وأمان في مختلف الولايات، دوراً هائلاً في تأجيج الفتنة المذهبية، حيث استثمروا في الشقاق والتجييش وكأنهم في سباق مع أقرانهم في الوطن الأم، كانوا ينهلون من معين لا ينضب من تراث بغيض ضارب في التاريخ، يتركون الدعوة ومبادئ الإيمان والشعائر والسلوك الحميد ويركزون على المناسبات والمظاهر والفتاوى الفتنوية التي تجذب الجمهور الأكبر، ولم يكتفوا بجهودهم الذاتية ومواهبهم الجمة فكانوا يستضيفون رموز التجييش المذهبي والتحريض ومحترفي الدسائس والمكر المتخصصين في نكء الجراح المذهبية واستدرار النقمة واستثارة ردود الفعل، ولا يقصرون دورهم على منابرهم ومساجدهم بل وجدوا في التواصل الاجتماعي فضاءً أوسع وانتشاراً مضموناً.
لا يمكن لرجال الدين، إلا من رحم ربي، أن يتبرأوا من هذا السلوك المشبوه، ولا يمكن للمدنيين من مديرين وأعضاء مجالس إدارة وممولين للمؤسسات الدينية أن يدعوا أنهم يعملون ابتغاء مرضاة الله، أو من أجل نشر تعاليم الدين، فهم سواء كانوا يدرون (وهذا الأرجح) أو لا يدرون (فتكون المصيبة أكبر) كانوا ولا زالوا يسعون جاهدين من أجل استيعاب جمهور مأزوم أصلاً، خصوصاً من المهاجرين حديثاً، وتحديداً اللاجئين، الذين عانوا ويلات الحروب ومآسي الإرهاب ومصائب الاقتتال ومعاناة النزوح، وانتظروا طويلاً في ظروف معظمها عسير وصعب، ليصلوا إلى أميركا ويكتشفوا أن هنا من يمكنه أن يطلق العنان لعواطفهم المشوّشة دون خوف من سلطة (أو ميليشيا) ودون وازع من وجدان ودون أدنى إحساس بالمسؤولية.
الأخطر في الأمر أن المشايخ الكرام المتمتعين بالأمن والطمأنينة والأمان وحماية القانون في هذه البلاد يعرفون –وطالما يرددون ويشتكون– أن أحوال المسلمين ليست بخير وأن «الأمة» في أسوأ الظروف، وهم ليسوا في حاجة لمن يقول لهم إن هذه البلاد، إلى جانب كونها بداية معيشية وإنسانية جديدة تحفظ كرامة عشرات آلاف المهاجرين واللاجئين، يمكن أن تكون أيضاً منعطفاً مصيرياً في ولاءاتهم السياسية وانتماءاتهم الفئوية إن توفرت لهم سبل التعرف على سياق العمل العام والنشاط الاجتماعي والتمكين المعرفي ليتأكدوا أنهم لم يعودوا مضطرين للانضواء في تشكيلات واستقطابات بدائية سواء كانت مذهبية أو قبلية أو إقليمية أو مناطقية، لكن رجال الدين أنفسهم لا يريدون ذلك، فهم في خطبهم وأحاديثهم يخوّفون الناس من «بعبع» المجتمع الجديد، وتحت مسمى الحفاظ على العائلة والهوية يركزون على الدعوة إلى التمسك بالعادات والتقاليد، وحتى إحياء ما بددته الأيام منها، ويصرون على الشعائر والطقوس المثيرة للانفعالات، وكل همهم زيادة الحضور، فالناس عندهم أرقام وكلما ارتفع الرقم صار الجمهور أكبر.
بهمّة رجال الدين وهمّة من حولهم من ذوي الميول الطائفية والمذهبية أو أصحاب الغايات الحزبية والتعبوية أصبح سوء حال العلاقات بين المسلمين في أميركا امتداداً لسوء الحال المتفاقم في الوطن الأم، ولن تجدي كل المواقف اللفظية والتصريحات المنمّقة المعدّة للاستهلاك الإعلامي، والتي لا تعبر إلا عن النفاق والرياء، في معالجة الوضع. بطبيعة الحال سينبري كثيرون لتسويف الموضوع وسوق تبريرات وادعاءات باطلة للإيحاء بعدم وجود مشاكل، وسيرددون آيات كريمة وأحاديث شائعة للتأكيد على أن «المؤمنين أخوة»، وسيحاولون تحميل المسؤولية لمن يرفع الصوت ويطالب بالمعالجة والتغيير.
ليس من المفيد الدخول في تفاصيل ما حصل في نيو مكسيكو، بقدر عدم فائدة ما ذهب إليه من وردت آراؤهم في تقرير الزميل عباس ومحاولتهم «اختراع» دوافع شخصية وغير مذهبية لجرائم هزت بعنف، المجتمع المسلم في ألبكيركي بعدما عاش على أعصابه لشهور خشية أن يكون قد تحول هدفاً لعنصرية أميركية بيضاء. ومن يتابع مسارات التعايش «الدموي» بين مذاهب وتيارات الدين الحنيف خصوصاً في باكستان وأفغانستان والعديد من دول العالم العربي –حيث المساجد والحسينيات والمقامات الدينية اهداف عسكرية «مباحة»– لا يحتاج إلى دليل لمعرفة منسوب الكراهية بين المذاهب، ومن يتابع جولات «المؤمنين» وصولاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي (وهذا موضع بحث آخر)، لا يمكن أن يصدق العواطف الهابطة عن «الوحدة الإسلامية» الصادرة عن رجال الدين المتورطين كلياً في تأجيج الفتنة.
كلمة أخيرة لا بد منها للنشطاء المدنيين العرب والمسلمين الأميركيين الحريصين فعلاً على مصالح مجتمعهم والصادقين في العمل على تطوير أحوال أهلهم وناسهم وإتاحة المجال أمامهم ليكونوا منتجين ومتفاعلين في بيئتهم الجديدة وتصريف مشاعرهم وطاقاتهم في قنوات حيوية تؤثر إيجابياً على كيانهم ومستقبل أولادهم سواء عبر المساهمة في المؤسسات والمبادرات الأهلية والخيرية أو المشاركة السياسية على نطاق أوسع في الأطر الانتحابية والديمقراطية، وهي عدم جواز مسايرة واسترضاء الشخصيات والمؤسسات الدينية التي هي سبب أساس في المشاكل، بل مواجهتهم وكشف دورهم ومحاسبتهم شعبياً وإعلامياً، فنتائج مداراة التطرف الديني والتسامح مع الكهنوت معروفة وموثقة ومضرجة بالدم.
Leave a Reply