محمد العزير
من نكد الدنيا على فلسطين وشعبها أنها تحولت منذ قرابة قرن من الزمن إلى استثمار مشاع لمن شاء، سلاطين وملوك ورؤساء وزعماء وشيوخ ومعممين ومناضلين ومثقفين ومتمولين وحزبيينومخبرين ومرتزقة وأفّاقين… من نكد الدنيا على فلسطين التي ابتليت بالصهيونية المدعومة من الفاشية الأوروبية التي أرادت أولاً التخلص من اليهود، ثم أرادت بعده التخلص من عذابالضمير بعد المحارق النازية، التي كان الغرب كله متواطئاً فيها، أن تتحول من قضية عدالة إنسانية لا لبس فيها، وهي تعاني من ممارسات أيدولوجية استعمارية دينية عنصرية فجة، إلىمضغة تتشدق بها الأفواه الرخيصة الباحثة عن الشهرة بأي ثمن، وإذا كانت هذه التجارة مفهومة من الأنظمة العقيمة ومتسلقي سلالم النضال المجاور وإن لم تكن مبررة، فإنها أقرف ماتكون عندما يلوكها من يفترض أنهم أبناء القضية.
ليس المقصود في هذه المقدمة قواريط المخابرات وزبانية الأنظمة أمثال أحمد جبريل و«أبو نضال» و«أبو العباس» وغيرهم من المرتزقة الأقل شأناً الذين استثمروا في «الكفاح المسلح»فأهانوه وبهدلوه، بينما كان البعض غير القليل من «الجماهير» يصفّق لهم ويرى ببدائية الكيد والأرياف أنهم «ثوار». المقصود فئة ثانية أكثر أذى وأمضى ضرراً، أولئك الذين انحطوابالقضية إلى لغة ومفاهيم «قروسطية» غيبية دفعتهم إليها الإيديولوجية الصهيونية القائمة على موبقات الهوية الدينية والدولة القومية اللتين أدخلتا أوروبا في أتون حروب مذهبية وقومية دمويةتوجتها في القرن العشرين حربان عالميتان أودتا بحياة عشرات الملايين من البشر عدا الدمار والخراب والتأخر والضغائن.
لعل من أسوأ هذه النماذج الملتحي بسّام جرّار الذي يجمع بين السفاهة والدجل والحقد، والذي بنى مجده المريض على تبشير الناس باقتراب زوال إسرائيل بناء على خزعبلات عددية يدعيأنه استنبطها من القرآن الكريم فألّف فيها كتيباً تافهاً وسارع إلى افتتاح «ماركته» المسجلة على التواصل الاجتماعي وأصبح نجماً يتمتع بمتابعة مئات الآلاف من المعجبين.
هذا الرجل المولود في رام الله –الذي شاءت الصدف أن يكون بين المئات الذين أبعدهم الاحتلال الإسرائيلي إلى مرج الزهور في جنوب لبنان عام 1993، ليتحولوا إلى قضية رأي عام دوليةبفضل رئيس الوزراء اللبناني في حينه رفيق الحريري الذي وظّف علاقاته الدولية لفضح انتهاكات إسرائيل وأجبرها في النهاية على إعادة المبعدين إلى أرض فلسطين– افترض في نفسهنباهة واعتقد أنه مميز، وكل عدته كلام منمق لا يغني ولا يسمن، فألّف بعد إبعاده كتاباً يتوقع فيه زوال إسرائيل عند تقاطع سنتي 1443 الهجرية و2022 ميلادية، وعلى نسق «أنبياء»المبشرين في أميركا، لا سيما هارولد كامبنغ الذي توقع نهاية العالم في العام 2012 وعاش ليتأكد من زيف ادعائه، نسج الجرّار روايته الفارغة فاستقطب عشرات الآلاف من المقهورين الذينلم يعد لديهم من أمل، سوى الغيب.
جزم جرّار في كتابه أولاً ثم في ما يسميه الدروس الدينية التي يلقيها وهو جالس على كرسي مريح خلف مكتب فخم، وكأنه مدير عام شركة ناجحة، بأن التداخل الزمني بين سنة 1443هجرية وسنة 2022 ميلادية سيكون موعد زوال إسرائيل. انتهت السنة الهجرية في آخر تموز (يوليو) الماضي، وتبعتها السنة الميلادية الأسبوع الماضي ولا يزال الكيان الصهيوني جاثماً علىصدر فلسطين وقاطعاً لأنفاس شعبها، ولا يزال جرّار يلقي دروسه ويجتر نظرياته المهترئة نفسها بوقاحة عجيبة وصلافة لا يعرفها إلا من احترفوا اليقين الغيبي وفقدوا أية صلة مع الصدق أوالمصداقية.
ومع نهاية السنة وانكشاف الكذبة، لم يجد جرّار سوى الإسهال اللغوي ليبرر خيبته وخيبة أمل الذين أوصلهم اليأس إلى التمسك بخيوط غيبية واهية، فبادر إلى لوم الناس الذين صدّقوه، فهم–حسب قوله– مسؤولون عن استنتاجاتهم! ورغم ذلك، أصر على صوابية خزعبلاته. يسأل مستمعيه مبتسماً «كيف تعرفون أن إسرائيل ليست في طريق الزوال فعلاً؟»، يعطي أمثلة تسندترهاته: انظروا كيف أن إسرائيل شكلت أربع حكومات خلال ثلاث سنوات، أليس هذا دليلاً على أن «دولة اسرائيل» لم تعد تلك الدولة التي نعرفها، ألم يقل هنري كيسينجر عام 2012 أنإسرائيل لن تكون موجودة بعد عشر سنوات؟ ألم يبدأ الغرب في التخلي عن إسرائيل؟ لدى جرّار الإثبات على ذلك، رجل بريطاني متزوج من يهودية كان يحضر الأخبار على التلفزيون فانفعلوقام بضرب زوجته لأنها يهودية، يقول جرّار ضاحكاً ومتشفياً، ثم ما أدراكم ما يحصل في أوكرانيا، هل تعرفون ما إذا كان هناك أسرى أميركيون وإسرائيليون؟ خبيصة من الأقاويلوالأحابيل ما أنزل الله بها من سلطان.
الملفت أن جمهور جرار لم ينقص، وأن جرار نفسه مصر على أن توقعاته مبنية على كلام إلهي مقدس، وأن الاستعداد لتصديقه قائم وينتظر كذبة جديدة، وبدل أن تكون هذه الحالة مناسبةللتنبيه من الغيبيات والدجل دخل على خطها كثيرون ممن حاولوا تمييع الموعد المضروب وتمديده أو تمويهه، «لأن الوعد صحيح لكن التوقيت قابل للنقاش» ربما سيكون عام 2022 هجرية. والمريع فوق الملفت أن شخصية عامة من وزن رجل الأعمال طلال أبو غزالة الذي اعتمد نظرية قيامية تبشر بنهاية العالم منذ انتشار وباء «كوفيد 19»، دخل على خط الاستثمار الغيبينفسه وتوقع زوال إسرائيل عام 2003.
من عجائب واقعنا العربي المزري أن مجتمعات تتراجع وتتأخر وتزداد بدائية منذ ابتلينا بثنائية الصهيونية ومجالس قيادة الثورة أن المقهورين والمقموعين يجدون في الغيبيات إجازة من واقعهمالمرير، ويجدون في الشماتة من كوارث طبيعية في أميركا والغرب تعويضاً معنوياً عن بؤس لم يزد منه الدين سوى التسليم بالقضاء والقدر.
Leave a Reply