خاص “صدى الوطن” –
دروس عدة يمكن استخلاصها من سقوط واحد من أكثر الانظمة العربية، بل العالمية بوليسية، إن لم يكن أسوؤها على الاطلاق في بضعة أيام دون زعيم. بل كان “زعيم” الثورة محمد البوعزيزي، وهو شاب جامعي منع من بيع الخضار قبل أن يقوم بحرق نفسه.
ربما ليس صدفة أن السيل بلغ الزبى -وربما مستويات اخرى- بسبب الضغط غير المحدود الذي وضعه نظام بن علي على الشعب التونسي، والذي نجح في إطالة عمر نظامه الديكتاتوري بركوبه أسطورة التنمية داخليا ومحاربة الارهاب خارجيا.
تجربة النظام التونسي السابق في استئصال المعارضة الاسلامية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات جعلته زبونا نجيبا (في وقت لاحق) لحملة جورج بوش، وساهمت تلك الزبونية في صم آذان الأميركيين عن اي انتقاد لخنقه الانفاس “سواء من الداخل أو الخارج” على حد تعبير السفير الاميركي..
والبيت الابيض انتظر ساعات طويلة قبل إصدار بيانه المكتوب مرحباً فيه بتطورات تونس ومشيدا بارادة الشعب التونسي، لكن الوزيرة هيلاري كلينتون وقبل أيام، بل ساعات، من ساعة الصفر التونسية، كانت تقول “إننا على الحياد هنا ولا نقف مع أي جانب”. وكأن الوقوف بين ديكتاتور وشعب يتطلع إلى الحرية والكرامة يطرح بالفعل مسألة الخيار والاختيار.
والوزيرة الاميركية أعربت أيضا عن “القلق” المحتمل من انعدام الأمن وعدم الاستقرار.
وهي ومعها باقي طاقمها من المتحدثين باسم مختلف الوزارات والرئيس نفسه ملؤوا الدنيا ضجيجا ومازالوا حول “ثورة” الايرانيين الغاضبين من نتائج الانتخابات الإيرانية الرئاسية الماضية. فالمسؤولون الاميركيون أشادوا بتوظيف الايرانيين المنتفضين لتقنيات التواصل الحديثة (كما حدث في تونس)، كما أن واشنطن الرسمية والاعلامية لم تتردد لحظة واحدة في اتخاذ موقف مضاد لاحمدي نجاد، ومؤيد لمعارضيه، كما ترددت في اتخاذ موقف من ثورة تونس.
كما أن حالة الوهن العربي العام أوجدت احيانا أدبيات سياسية، وعقلية تحليل متهافتة، تعطي واشنطن قدرات اسطورية في تقرير مصير الشعوب العربية واطالة عمر حاكميها. ولاتقل قوة واشنطن الخارقة في نظر هؤلاء سوى عن قدرة الموساد في تغيير الطقس أو خنق المجاري في أية عاصمة عربية.
في مصر، رائدة الفكر العل العربي المتنور في النصف الاول من القرن الماضي، نسمع الان عن مسؤولية الموساد في كل كبيرة وصغيرة من أمراض الشقيقة الكبرى، من ارتفاع سعر “العيش” (الخبز) الى ابتلاع سائحين من قبل أسماك القرش، ومن توريث العرش الى التطاحن الطائفي.
وفي السعودية “اعتقل” مؤخرا أحد الطيور الجارحة، واعتبر الاعتقال انجازا كبيرا ضد الموساد لأن السلطات الساهرة هناك وجدت قرصا صغيرا، وكتابات باللغة العبرية على الطائر الذي كان موضع بحث علمي من جامعة تل أبيب.
وفي السياسة لا يكاد يدور حديث مع أي “محلل” عربي دون أن يجزم ذلك المحلل، كبيرا كان أم صغيرا، بأن واشنطن وضعت هؤلاء الحكام وهي المسؤولة عن بقائهم.
صحيح أن هؤلاء الحكام يتطوعون بخدماتهم لدعم حروب واشنطن، باردة كانت أم ساخنة أو حاليا ضد الارهاب، لنيل رضاها. وهي خدمات قلما وفرتها أي فئة أخرى من الحكام في أي منطقة أخرى من العالم، لكن واشنطن لن تسطيع إبقاء اقواهم يوما واحدا في السلطة اذا غضب الشعب، او حتى اذا غضب أحد جنرالاتهم.
كان بن علي خديماً طيعا في مواجهة “الارهاب الاسلامي” يمد المخابرات الاميركية باسماء اعدائها الحقيقيين والمتخيلين، ونجح في التعمير على رأس “نظام مستقر”، وهما عنصران كانا سيضمنان له رضى واشنطن، حتى لو بقي على عرشه إلى يوم النشور.
الفرق بين بن علي وأحمدي نجاد في نظر واشنطن هو أن الاول كان خديما طيعا والثاني خصم مشاغب (بالاضافة الى عدائه اللغوي لاسرائيل طبعا) وبالتالي يتعين حماية الاول رغم مشاكله وتعقب سقطات الثاني وشيطنته على طول الخط..
اما مسألة الديموقراطية وعلى الرغم من الشعارات المرفوعة في واشنطن فلن تنفع الايرانيين كما انها لم تفد التوانسة.
حديث الرئيس الاميركي في رد الفعل الذي طال انتظاره عن “تصفيقه” لشجاعة وكرامة الشعب التونسي يفتقد للكثير من المصداقية الاخلاقية في امتحان ستواجهه واشنطن مرارا في المستقبل القريب دون ان تجد حتى الآن توازنا بين الدفاع عن كرامة الشعوب ودعم قاهري تلك الشعوب.
وقد حاولت واشنطن مع صدام حسين والعقيد القذافي لسنوات طويلة في محاولة لازاحتهما (كما تحاول مع الايرانيين) لكنها لم تنجح في العراق على الأقل الا بعد أن دمرت البلد وقتلت اكثر من مليون عراقي وخمسة الاف جندي اميركي وأنفقت أكثر من تريليون دولار.
ولا يبدو ان واشنطن مستعدة او قادرة على تكرار ذلك السيناريو الدموي لحماية، أو ازاحة، اي نظام اخر في المستقبل القريب على الاقل.
لكن التفسيرات المؤامراتية التي تعطي واشنطن والموساد كل هذه القوة الخارقة لا تحيد عن المنطق والحقيقة فحسب، بل تعمق شعورا بالعجز لدى الانسان العربي مادام يواجه قوى اسطورية لاقبل له بها.
واشنطن لم تستطع حماية بن علي من غضب شعبه كما لم تستطع حماية شاه ايران من غضبة شعبية مماثلة، وكان الامبراطور الراحل أقرب الى قلبها ومصالحها من بن علي بمراحل عدة.
وأجمل ما في الثورة التونسية التي تعددت اسماؤها انها أسقطت هذه الاسطورة وأظهرت عجز أدوات النظام القمعية وعجز كل من باريس وواشنطن في اعادة تغيير الاوضاع حينما تخرج عن السيطرة وحينما يتعدى الصبر حدوده المنطقية.
واشنطن تستعيد فصاحتها
الفرنسيون، الذين لا يدعون على الأقل أسسا اخلاقية في دبلوماسيتهم الخارجية ولا يسعون الى نشر مبادئ ثورتهم المتنورة في مستعمراتهم السابقة، تصرفوا على ذلك المنوال ولم يخلقوا مفاجآت تذكر على الرغم من تأثيرهم ونفوذهم الاقوى من الاميركيين في تونس.
والرئيس نيكولا ساركوزي الذي يحتفظ في البومه الرئاسي بصورة له مع السيد بن علي على مدخل الاليزيه في لقطة معبرة عن مدى الحميمية في علاقة الرجلين، رفض حتى استضافة “زميله” السابق، بل طلب من أسرته الرحيل عن عاصمة الأنوار.
وجاك شيراك (سلف السيد ساركوزي) كان قد حسم في معضلة حقوق الانسان في تونس حينما عرّف يوما حقوق الانسان بأنها حقوق الاكل والتعليم والمأوى، واستخلص على أساس ذلك التعريف المنقوص أن حقوق الانسان في تونس في “وضعية متقدمة للغاية”.
لكن للاميركيين قصة مختلفة تماما مع الاخلاق والديموقراطية منذ الحرب الباردة، نجحوا خلالها وحتى الآن في مهاجمة اعدائهم منذ أيام الشيوعيين لتلك الاسباب الاخلاقية لكن في الوقت نفسه حماية “زبائنها” من الجنرالات الدمويين في اميركا اللاتينية وافريقيا والشرق الاوسط لانهم يقتلون اليساريين.
والعالم العربي أصبح آخر منطقة في العالم تمارس فيها واشنطن هذا النفاق المفلس أخلاقيا بدعمها أنظمة دكتاتورية، بدعوى محاربة الاسلاميين، لكن الوعي يعود اليها مؤقتا أثناء الخطب السيادية أو بعد فوات الاوان، كما حصل ازاء الاوضاع في تونس.
ورئيسة الدبلوماسية الاميركية التي اعلنت في طريقها الى منطقة الخليج اثناء اشتعال الاوضاع في تونس انها “لا تأخذ موقفاً” انطلق لسانها فجاة في الدوحة بعد ان تأكدت واشنطن ان طائرة بن علي قد حطت أخيرا في جدة.
كما أنها أعلنت امام مخاطبيها العرب أن “الأسس التي تقوم عليها المنطقة بدأت بالغرق في الرمال” داعية الى خلق مساحات يطالب بها الشبان للمشاركة في قضايا الشأن العام والقضايا التي تؤثر على حياتهم.
الوزيرة لم تنس خصومها، طبعا، مذكرة الحضور بأن “الذين يحاولون استغلال اليأس والفقر موجودون بالفعل ويتنافسون على التجنيد والتأثير”، لكن فصاحة الوزيرة ومتحدثي البيت الابيض والخارجية كانت غائبة في شجب النظام التونسي بعد اطلاقه النار على المتظاهرين، وخانت المتحدثين الاميركيين لغة الشجب التي لم تستخدم ضد ايران فحسب بل ضد بورما وصربيا واوكرانيا.
والحكومة الاميركية ذهبت الى حد تقديم دعم مالي للمتظاهرين في كل من صربيا واوكرانيا لانها تناصب حكومتي البلدين العداء وليس حبا في تعميم ما يتمتع به شعبها.
لكن الكونغرس وبعد اشتعال شوارع تونس كان يدرس امكانية منح الحكومة التونسية -وليس المتظاهرين- دعما ماليا “أمنيا” بقيمة اثني عشر مليون دولار ضمن خمس دول تحظى بذلك الدعم الأمني المباشر، وهي اسرائيل ومصر والاردن وكولومبيا.
ثورة فرنسية على الطريقة التونسية؟
كان أحد الدبلوماسيين الاميركيين السابقين قد رحب ساخرا بتسريبات “ويكيليكس” –بعد ان شارك في كتابة بعضها شخصيا- معربا عن الاعتقاد بانها الفرصة الذهبية الوحيدة امام هذه الوثائق للقراءة لان السلطات المركزية في واشنطن لا تقرأها.
ومجلة “السياسة الخارجية” (فوريني بوليسي) الجادة وصفت ثورة التونسيين بأول ثورات “ويكيليكس”.
شبان الثورة التونسية قرأوا قصاصات الدبلوماسيين الاميريكين في بلدهم، بل أسسوا لها موقعا الكترونيا خاصا وتبادلوا خلالها روايات البذخ الاسطوري الذي يرفل فيه أصهار النظام وزبانيته، في حين يتضور الخريجيون الجامعيون جوعا.
تأخر أو تردد الاميركيين في اصدار رد الفعل لا يمكن ان يعزى بأي حال من الاحوال الى جهلهم بما كان يجري وراء اسوار مملكة بن علي الخضراء، الا اذا صدقنا رواية الدبلوماسي الاميركي السابق أو انهم لا يقرأون الا ما يمتع فضولهم بشأن كون النظام حليفا في مكافحة الارهاب.
والسفير الاميركي روبرت غوديك الذي عمل في تونس أيام جورج بوش واستمر في منصبه حتى بعد وصول باراك اوباما اتخذ من فساد النظام التونسي موضوعا رئيسيا لمراسلاته مع واشنطن دون ان يرفع كبار مسؤولي المصالح المركزية عقيرتهم بالتحذير من عواقف غليان البركان.
والسيد غوديك أخبر رؤساءه أيام السيدة كوندوليزا رايس بأن “اسرة السيد بن علي الكبيرة يشار اليها دائما بانها أصل الفساد”.
وفي قصاصة وصلت هذه المرة الى هيلاري كلينتون والرئيس اوباما “حسب مقاييس كثيرة يتعين على تونس ان تكون حليفة قوية للولايات المتحدة لكنها ليست كذلك. انها امة غير مستقرة”.
ووصف السفير حفل عشاء دعي اليه في بيت ابنة الرئيس نسرين وزوجها شاكر المطيري في بيتهما الفخم على الشاطئ، في بلدة الحمامات، (البيت الذي هاجمه وأحرقه المتظاهرون حتى قبل رحيل بن علي).
فبعد ان أعرب السفير عن اعجابه الكبير المشوب بالصدمة بفخامة البيت، انتقل الى وصف محتوياته القيمة من قطع أثرية وأثاث فاخر في كل مكان بما في ذلك الاعمدة الرومانية، وصبيب الماء من فم الاسد في المسبح المطل على البحر.
والسيدة كريمة الزعيم وزوجها الذي يتعامل مع كل شيء في تونس بمنطق “كل ما لديك هو ملكي” حسب تعبير السفير الاميركي قررا على ما يبدو درءا للملل تبني نمر متوحش في القصر الفخم، اختارا له من الاسماء اسم “الباشا”.
و”سعادة الباشا” يلتهم يوميا أربع دجاجات كاملة لا اتجد إحداها أسر تونسية مجتمعة، لكن السيد المطيري، ربما أبلغ ضيفه الاميركي بوجبة “الباشا” عن طريق التفاخر والظهور، وربما اظهار مدى رأفته بالحيوانات.
لكن السفير الاميركي ذكره سلوك الاسرة الباذخ بما كان تفعله ذرية صدام حسين في بغداد وكيف كان عدي “يربي” أسداً في عرين مدجن داخل أحد قصوره في العراق.
لكن التهام “الباشا” لأربع دجاجات يوميا في وقت لا يجد خريج جامعي كالبوعزيزي مصدرا للرزق بما في ذلك عربة مجرورة لبيع الخضار تعيد الى الاذهان سلوك ماري انطوانيت عشية ثورة الجياع الفرنسية.
مبالغة المضيفين في إكرام ضيفهما الاميركي بما في ذلك احضار بعض الوجبات خصيصا من فرنسا صدمت السفير الاميركي وأقنعته على الطبيعية بأسباب كراهية الشعب التونسي لبن علي وأسرته وأصهاره.
وفي إحدى قصاصاته كتب السفير الاميركي عن تقدم بن علي في السن وغياب الوريث المحتمل ومشاعر الاحباط الكبيرة التي تعم الشعب بسبب البطالة المرتفعة وغياب الحريات السياسية وفساد العائلة الاولى وعدم التوازن بين المناطق واعتماد الحكومة التونسية على المقاربة الامنية في التعامل مع كل مشاكل البلاد.
مفاجأة بداية العام
توقعت في أول رسالة من واشنطن هذا العام ان يشهد العالم العربي تغييرات كبيرة، ليس بصناديق الاقتراع ولكن بصناديق التوابيت، ولم يخطر ببالي أو أي من مراقبي الشأن العربي أن يدخل الشعب التونسي البطل التاريخ كاول شعب عربي ينتفض ويطرد جلاديه.
كانت التوقعات المنطقية تنتظر رحيل الرئيس الأبدي الذي أشرف على اواسط السبيعنات ويعاني من السرطان أن يرحل الى دار البقاء أو أن يتم اسقاطه “في اسوأ الاحتمالات” بشهادة طبية كما فعل هو شخصياً مع “المجاهد الاكبر”، الحبيب بورقيبة.
وكان أقصى ما يتمناه المرء هو أن يؤدي اختفاؤه بالموت أو بالشهادة -الطبية- أو أن تكون الوفاة أو الغياب فاتحة عهد جديد على تونس، كما كانت وفاة الجنرال فرانكو على اسبانيا.
لكن الثورة التونسية الكبيرة فاجأت الديكتاتور قبل ان تفاجأ العالم كله لأن المجتمع كان يغلي فوق بئر من الوقود وجاء عود الثقاب الذي اشعله البوعزيزي ليفجر كل شيء. وبالنسبة لي، شخصيا، أدركت أن أيام بن علي أصبحت معدودة حينما رأيت صور المتظاهرين تتوجه بشجاعة نادرة الى مقر وزارة الداخلية المخيفة في قلب تونس العاصمة والتي لم تشهد تعذيب مناوئي النظام فحسب بل تحولت البناية نفسها الى رمز للرعب.
أذكر أنني كنت في تونس عام 1994 في مهمة صحفية موفدا من اذاعة صوت اميركا لتغطية آخر قمة مغاربية تعقد في تونس ومشيت خطأ على الطوار المحاذي للوزارة المرعبة دون أن انتبه لأنني لم اقرأ أي لوحة تمنع من ذلك، الى ان فوجئت بشرطي مدجج بسلاح اوتوماتيكي ينهرني ويأمرني بعبور الطريق والمشي في الطوار المقابل.
والوزارة لم تكن مخيفة من الداخل فحسب بل عمل النظام على ان تكون مرعبة في الخارج ايضا، كرسالة “لكل من تسول له نفسه” الاقتراب منها.
وفي الرحلة نفسها قدر لي ان أرى سلاحا آخر هذه المرة لحرس الرئاسة على باب قصر قرطاج، مكان انعقاد المؤتمر، حينما بدا لي منظر البحر جميلا من مدخل القصر، فرفعت ببلاهة آلة تصويري الصغيرة لالتقاط صورة للبحر قبل أن يلتقطني من استمتاعي بالمنظر الجميل صراخ العسكري المدجج بالسلاح والغاضب الملامح يأمرني بعدم التقاط صورة للبحر!
لكن أبلغ ما اذكره من تلك الرحلة عن قسوة النظام البوليسي السابق في تونس جاء نتيجة سؤالي الغبي في أول صباح استفيق فيه في البلد حينما سألت صاحب الدكان الصغير الذي يبيع الجرائد داخل الفندق الذي كنت اقيم فيه اذا كان لديه جرائد للمعارضة!
نظر الي صاحب الدكان بابتسامة ذكية وخفيفة لكنها كانت بليغة في “جوابها” وبعد أن تأكد من خلو المكان اردف بلكنته التونسية اللطيفة “هل أنت تضحك يا خويا”؟!
تذكرت هذه الحادثة الصغيرة بعد ان قرأت مؤخرا ما كتبته صحفية اميركية مخضرمة وعلى اطلاع جيد بالعالم العالم العربي في معرض حديثها على هروب بن علي في الـ”واشنطن بوست” ونقلت عن زميل فرنسي عاد لتوه من تونس قوله “ان جميع الصحف التونسية تمجد بن علي وكأن أمه هي التي تكتب المقالات”.
غياب الزعيم البديل
جميع احرار العالم يضعون ايديهم على قلوبهم متمنين نجاح التونسيين في تجاوز هذه المرحلة الانتقالية التي قد تصبح اكثر صعوبة من التخلص من قيود بن علي وزبانيته من الحرس الرئاسي والاستخباراتي.
النظام الدكتاتوري الغابر لا يتحمل جرائم بالجملة ضد شعبه فحسب بل “نجح” أيضا كباقي الديكتاتوريات العربية في سحق أي معارضة جدية او أمل في ظهور زعيم ذي مصداقية وشعبية بعد أن تفرق شملهم بالموت أو المنافي أو التدجين.
السيناريو التونسي في زمن ما بعد الديكتاتور مرشح للتكرار في أكثر من عاصمة من الجمهوريات الملكية العربية مما يعزز فرص الابناء، من الناحية النظرية على الاقل، أو فرص تدخل الجيش –لا قدر الله- الفوضى كما حصل في يوغوسلافيا والصومال.
لكن الجماهير التونسية أظهرت حتى الان تحضرا واستقامة غير مسبوقتين في مثل هذه الاحداث حتى بعد مواصلتها الاحتجاج على مخلفات الديكتاتورية بعد رحيل الدكتاتور.
ومن حسن حظ الاميركيين أن ثورة التوانسة غير المسبوقة في العالم العربي لم تتبن خطابا معاديا لاميركا كما كانت تخشى واشنطن. كما ان “الخوانجية”، وهو التعبير الذي استخدمه بن علي قبل ساعات من رحيله، لم يلعبوا ومن غير المتوقع ان يلعبوا الدور الحاسم في زمن ما بعد بن علي.
ومواصلة شبان مصريين وجزائريين وموريتانيين احراق انفسهم بسبب الفقر واليأس يحمل على الاعتقاد بأن البوعزيزي أشعل بعود ثقابه عهدا جديدا في العالم العربي يفوق ما فعلته الدعوات الاصلاحية للافغاني ومحمد عبده ودعوات دمقرطة العالم العربي التي رفعها جورج بوش الابن.
وانتقال ثورة تونس الى العالم العربي قد لا يحدث بالسرعة التي يتمناها البعض لكن الشروط الموضوعية موجودة في أغلب دول العام العربي لاشتعالها في اخر لحظة وفي اية لحظة.
لوموند الفرنسية كتبت عن اوضاع تونس “ما كان مستحيلا تصوره قبل بضعة أيام فقط يقع الآن بسرعة جنونية”.
احد الناشطين السياسيين السوادنيين قال لوكالة أسوشييتد برس “الاوضاع التي تسببت في انتفاضة تونس تبدو متواضعة للغاية بالمقارنة مع ما نعيشه نحن. لقد قسم بلدنا.. وفقدنا سيادتنا وتمت اهانتنا.. ويحصل هذا في تونس. انني أشعر بالمهانة”.
ثورة الفقراء والتكنولوجيا
التونسيون لم يكونوا بحاجة الى قراءة قصاصات ويكيلكيس لمعرفة ان بلدهم يقع تحت سيطرة “العائلة” (كما تسمى هنا منظمات الجريمة المنطمة) وان السيدة الاولى -والحلاقة السابقة- قد وضعت مع أسرتها اليد على كل مصدر اقتصادي مربح في البلاد.
النظام التونسي السابق لم يكن زبونا نجيبا للغرب ولواشنطن تحديدا في مجال مكافحة الارهاب فحسب بل كان من انجب ديكتاتوريات العالم الثالث في تنفيذ نصائح المؤسسات المالية الدولية من خصخصة ورفع لدعم الحكومة عن المواد الاساسية للطبقات المحرومة.
لكن تلك المؤسسات ومن ورائها الحكومات الغربية وفي مقدمتها واشنطن التي كانت تعمل نصائحها على إثراء فئة قليلة من آل بن علي والطرابلسي والمطيري في تونس وتفقر باقي التونسيين لم تتقدم بنصيحة لفتح مجالات التعبير وحريات الرأي.
وبالاضافة الى حربها المعلنة على حرية التعبير والرأي بمعناهما الكلاسيكي اعلنت “العائلة” حرباً على ادوات التواصل الحديثة التي ستتحول في نهاية المطاف الى أقوى وسيلة لحشد التأييد ضدها.
الفضائيات العربية التي لعبت دوراً طلائعياً في متابعة الاحداث منذ حادث البوعزيزي، في مدينة سيدي بوزيد، لم تكن تجد سوى صور الهواتف النقالة “لتغطية” الحديث عن المظاهرات، وهي الصور التي لم تستطع أعين المخابرات اليها سبيلا.
وكما في الاحتجاجات ضد الانتخابات في ايران لعبت ادوات التواصل الاجتماعي الالكترونية كـ”الفيسبوك” و”تويتر” دوراً حاسماً في التواصل بين الشبان الغاضبين وحشد الهمم حتى في مواجهة رصاص النظام.
محاولات النظام خنق “حركة السير” على الانترنت ووجه بحملات واسعة النطاق من مختلف انحاء العالم استهدفت المواقع الحكومية بل حتى الرئاسية في حملة انتقامية شبيهة بما حدث انتقاما لاعتقال مؤسس “ويكيليكس”.
وبعد رحيل بن علي اعلنت “قبائل الانترنت” فرحتها بالانتصار واستبدل الكثير من مستعملي الشبكة غلاف مواقعهم بالعلم التونسي الذي اصبح اكثر الاعلام شهرة على الشبكة العنكبوتية.
وكان من مباعث الشفقة والحزن أن يظهر “الزعيم” في آخر خطاب له للامة وبعد اقراره بفهم رسالة الشعب تعهد بمعاقبة حاشيته وتخفيض أسعار الزيت والسكر والدقيق دون أن ينسى التعهد بتحرير.. الانترنت!
ولم يكن أقل مدعاة للشفقة والحزن من مضامين خطب الزعيم الاخيرة سوى اتهامه للمتظاهرين بـ”الارهابيين والمأجورين”.
تهمة الارهاب يمكن فهمها في سياق سعيه للاستنجاد باصدقائه الفرنسيين والاميركيين لكن نعته المحتجين بالمأجورين كان أمرا غريبا بالفعل لأن المأجور يتلقى أجرا، والذي يتلقى أجرا لا يحرق نفسه يأسا في مكان عام.
Leave a Reply