هناك حراكٌ سياسي دولي واسع يشهده العالم في هذه الأيام، للتعامل مع أزمات كبيرة تعيشها منطقة «الشرق الأوسط» بما فيها؛ الحرب في أفغانستان، وقضية «الملف النووي الإيراني»، ومصير الصراع العربي-الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية. لكن «الملف الأبرز» في هذا الحراك الدولي الآن، هو الأحداث الدموية في سوريا. فالأوضاع الأمنية السورية المتدهورة يوماً بعد يوم أصبحت هي الأساس المطلوب معالجته فوراً قبل أن يتحوّل إلى حروب إقليمية، أو إلى مصدر نيران تُشعل حروباً أهلية أخرى في بلدان مجاورة.
أيضاً، فإنّ التفاهم الأميركي-الروسي على كيفية معالجة أوضاع سوريا سيكون هو المدخل لتوافق واشنطن وموسكو على قضايا دولية أخرى. الأمر نفسه أيضاً ينطبق على مفاوضات الدول الغربية مع إيران حول «ملفها النووي». فالعلاقة وطيدة الآن بين كل هذه القضايا وبين الأطراف الدولية والإقليمية المعنيّة بها.
فإلى أين يتجه هذا الحراك السياسي الدولي؟ وهل ما تقوم به واشنطن من اتصالات وزيارات للمنطقة يتكامل مع ما تقوم به موسكو من لقاءات واجتماعات؟ أم هو «تنافسٌ دبلوماسي» بين القطبين الدوليين المعنيّين بأزمات المنطقة؟!
حتّى الآن، استفادت واشنطن من تداعيات الأزمة السورية لجهة إضعاف دولة كانت –وما تزال- تقف مع خصوم الولايات المتحدة في المنطقة، وأبرزهم إيران، وتُشكّل ثقلاً مهماً لروسيا في المشرق العربي والبحر المتوسط، وتدعم قوًى لبنانية وفلسطينية تقاوم الاحتلال الإسرائيلي. كما أنّ الصراعات المسلحة في سوريا أدّت أيضاً إلى وجود أعداد كبيرة في الأراضي السورية من مقاتلي الجماعات الدينية المتطرفة، المحسوبة على الخط الفكري والسياسي لتيار «القاعدة»، ممّا سمح باستنزاف النظام السوري من جهة، وبتصفية أعدادٍ كبيرة من مؤيدي «جماعات القاعدة» من جهةٍ أخرى.
وواشنطن لم تكن في السابق مستعجلة جداً على فرض تسوية سياسية للأحداث الدامية في سوريا، لكنّها حرصت في السنتين الماضيتين على ضبط الصراع وعلى عدم انتشاره إقليمياً أو دولياً، فكانت الإدارة الأميركية تُشجّع الآخرين على تسليح بعض قوى المعارضة، دون تورّطٍ أميركيٍّ مباشر، ولا تُشجع في الوقت ذاته على حلول سياسية وأمنية لم يحن أوانها أميركياً بعد، كالذي حصل مع المبادرة العربية في خريف العام 2011.
يبدو الآن أنّ الظروف قد تغيّرت، وأنّ المراهنة على الحلول العسكرية قد فشلت لدى كل الأطراف المعنيّة بالأزمة السورية، وأن هذه الأزمة أصبحت عائقاً أمام تفاهماتٍ دولية أخرى مطلوبة بين واشنطن وموسكو، وفي المفاوضات التي تحصل مع إيران على دورها في المنطقة وعلى مستقبل العراق وأفغانستان. لذلك أرجّح أن ما حدث حتى الآن هو توافق روسي-أميركي على مبدأ ضرورة تحقيق تسوية سياسية للأزمة السورية خلال وقت قريب، لكن مع استمرار الاختلاف بين الطرفين على التفاصيل والحصص في التسوية المرتقبة.
وما تشهده الآن عواصم دولية كثيرة من لقاءات، وما ستشهده المنطقة أيضاً من زيارة للرئيس الأميركي أوباما وتنشيط للمسألة الفلسطينية، سيجعل من هذا العام موعداً زمنياً لولادة ما كان ينمو في رحم السنتين الماضيتن من متغيّرات، في بلدان المنطقة وفي العالم. فأميركا لم تعد قادرة وحدها على تقرير مصير العالم، كما حاولت في العقد الأول من هذا القرن الجديد. ومع ما عاصرته البلاد العربية مؤخّراً من رياح تغييرٍ سياسي، بعضه كان نسمات والبعض الآخر أعاصير، حان وقت صياغة نتائج المتغيّرات الناجمة عنه، والتي قد تكون في أشكال الحكم أو حتّى في بنية الأوطان. لكن لا فصل ولا انفصال بين أوعية الأزمات المتصلة من كابول إلى الصحراء المغربية، ولا استبعاد لإسرائيل ولمستقبل علاقاتها مع دول المنطقة عن كل هذه الأزمات ومصائرها.
هل سينجح الحراك الدولي الحاصل الآن بفرض حلولٍ وتسويات، رغم ما أمامه من صعابٍ وعقبات؟! وما هي في حال الفشل الخيارات البديلة؟ أي هل سيكون الخيار البديل هو مزيدٌ من التصعيد العسكري في سوريا، وامتداد شرار النيران إلى دول أخرى كلبنان والعراق والأردن، مع احتمالات حدوث حروب إقليمية تشترك فيها إيران وإسرائيل وتركيا؟ وهل لواشنطن وموسكو والقوى الإقليمية الكبرى مصلحة في هذه الحروب؟ أم سيكون الاحتمال، في حال الفشل بتحقيق تسويات، هو استمرار الأزمات على ما هي عليه، ثمّ ضبط إيقاعاتها المحلية ومنع توسيع رقعتها الجغرافية؟ وهل هناك إمكانية لفعل ذلك، بل هل هناك مصالح دولية بذلك؟ لا أعتقد أنّ هذا ممكن، ولا أرى أنّ هناك مصلحة أميركية وروسية وإيرانية في استمرار التأزم الأمني والسياسي الحاصل. إسرائيل وحدها مستفيدة حالياً من الحروب الأهلية العربية، ومن التجاهل الدولي والعربي الجاري الآن للقضية الفلسطينية. وإسرائيل فقط، ومن معها في الأوساط السياسية الأميركية، ترغب بتغيير خرائط المنطقة وتفتيت كياناتها الراهنة.
إنّ غياب الدور العربي الفاعل هو الذي يستحضر الدور الأجنبي الدولي والإقليمي المهيمن الآن. وغياب الحكم الصالح وغير المستبد في أيّ بلد عربي هو الذي يشجّع الآخرين على التدخّل وعلى تحويل الوطن إلى ساحة صراعات، في ظلّ غياب مرجعيةٍ عربية فاعلة تنهي الصراعات المحلية وفق المصالح العربية وحدها.
إنّ الفراغ لا يقبل نفسه، بل هو دعوة (كقانون علمي حتمي) للامتلاء بشيء آخر. وهناك فراغٌ حاصلٌ في المنطقة العربية لأكثر من ثلاثة عقود، فراغ الدور العربي والقيادة العربية لمجريات أحداث المنطقة، فراغٌ حصل بعدما كانت القاهرة تقود المنطقة طوال عقديْ الخمسينات والستينات، ولم تسترد هذا الدور بعد.
هناك الآن فعلاً صراع محاور إقليمية ودولية في المنطقة العربية، لكن على الرافضين له أن يصنعوا البديل الوطني الصالح، والبديل العربي الأفضل، وليس تسهيل سياسة الأجنبي ومشاريعه الطامحة للسيطرة على كلّ مقدّرات العرب، كما هو أيضاً المشروع الإسرائيلي الحاضر في الأزمات العربية والعامل على تفتيت المنطقة إلى دويلات متصارعة.
وهناك أبعاد خارجية مهمّة للصراع المسلّح الدائر الآن في سوريا، وهو صراع إقليمي-دولي على سوريا، وعلى دورها المستقبلي المنشود عند كلّ طرفٍ داعمٍ أو رافضٍ للنظام الحالي في دمشق. لذلك نرى اختلاف التسميات لما يحدث في سوريا، فمن لا يريد تبيان الأهداف الخارجية للصراع يصرّ على وصف ما يحدث بأنّه «ثورة شعبية على النظام»، فقط لا غير. ومن لا يعبأ بالتركيبة الدستورية السورية الداخلية وبطبيعة الحكم، ويهمّه فقط السياسة الخارجية لدمشق، يحرص على وصف ما يحصل بأنّه «مؤامرة كونية»!.
إنّ مصير العلاقة الأميركية-الأوروبية مع روسيا والصين يتوقّف الآن على كيفيّة التعامل مع الملف السوري. وستمرّ أيامٌ وأسابيع من التصعيد العسكري على الأراضي السورية، ومن المفاوضات الصعبة غير المعلنة، ومن محاولات تحسين «الموقف التفاوضي» لكلّ طرفٍ إقليمي ودولي على أرض الصراع في سوريا، لكن إذا لم تُنفّذ في النتيجة «التسوية»، فإنّ سوريا والمنطقة كلّها ستدخل فعلاً حروباً أهلية وإقليمية كبرى، لن ترحم أيَّ طرفٍ معنيٍّ بها، ولا يمكن التنبّؤ بنتائجها!.
Leave a Reply