هذه ليست مصر، التي نرى ما يحدث فيها اليوم من طريقة حكمٍ، ومن سياسةٍ خارجية، ومن فتنٍ طائفية ومذهبية، ومن هيمنةٍ لإتجاهات فكرية وسياسية تُقسّم ولا تُوّحد شعبها المصري البطل وأمَّتها العربية المجيدة.
ليست هي مصر الآن التي عرفها العرب في منتصف القرن العشرين تقود نفسها وجوارها العربي والإفريقي والآسيوي في معارك التحرّر الوطني من قوى الاستعمار والهيمنة الأجنبية.
ليست هي مصر الآن التي كان أزهرها الشريف ينشر تعاليم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف في كلّ أنحاء العالم بعيداً عن التطرّف والتعصّب وجهل الفتاوى.
ليست هي مصر الآن التي كانت في مقدّمة دول المنطقة والرائدة لقضاياها القومية والوطنية، والحاضنة لصيغ ومؤسسات العمل العربي المشترك، والفاعلة الأولى في قرارات جامعة الدول العربية.
ليست هي مصر الآن التي كانت مصر كلِّ العرب، ولم تكن مصر هكذا أيضاً في كلّ حقبة النظام السابق الذي أسقطته ثورة «25 يناير»، لكن ما يحدث اليوم في مصر هو بعد سقوط ذاك النظام، وهو باسم «ثورة يناير»، وهنا خطورة ما هي مصر الآن عليه.
لقد حاول البعض «التنظير» لثورة 25 يناير بأنّها ثورةٌ أيضاً على ثورة 23 يوليو، وبأنّها ثورة من أجل الديمقراطية ضدّ استبداد النظام السابق وفساده، وليست ثورةً أيضاً على سياسة التبعيّة والعلاقات مع إسرائيل، والتي قزّمت دور مصر الطليعي في عموم المنطقة، وأضعفت مصر نفسها بعد أن قيّدتها منذ نهاية عقد سبعينات القرن الماضي بأغلال المعاهدات.
وقد تعدّدت التحليلات بشأن ما يحدث الآن في مصر، واختلف الكثير من المصريين والعرب حول توصيف طبيعة نظام الحكم الحالي فيها، لكن وصف البعض لهذا النظام بأنّه «الجمهورية الثانية»، بعد «جمهورية العسكريين» التي بدأت مع «ثورة 23 يوليو» في العام 1952، هو الوصف الخاطئ والخطير حيث يضع هذا الوصف حقبة جمال عبد الناصر في سلّةٍ واحدة مع حقبتيْ أنور السادات وحسني مبارك، رغم إدراك هذا البعض بأن الحقبة الناصرية قد تناقضت سياساتها الداخلية والخارجية مع كلّ ما جاء بعدها، وحتّى الآن.
يصّح القول بأنّ مصر تعيش الآن حقبة «الجمهورية الثالثة»، والتي تتميز بهيمنة «حركة الأخوان المسلمين» على الحكم، وبتعثر كامل حتّى الآن في كيفية بناء مصر الداخل اقتصادياً واجتماعياً ودستورياً، وبعدم احداث تغييرات جذرية في السياسة الخارجية التي كان النظام السابق عليها.
وهاهي المنطقة الآن تعيش مرحلةً جديدة من الصراعات العربية الداخلية، ومن الاستقطابات الدولية – الإقليمية، في ظلّ غيابٍ متواصل لمشروعٍ عربيٍّ مشترك، ولإرادة عربية مشتركة، وهو أمر لن يحدث من دون وضوح التحوّل السياسي الذي يجري الآن في مصر.
حتماً تنشغل مصر كثيراً خلال هذه المرحلة بأمورها الداخلية، في منطقةٍ لا تنتظر فقط «عودة مصر» بل يُحاول البعض استباق عودتها والإسراع في ترتيب أوضاع كيانات وأوطان وأنظمة تُحيط في مصر جنوباً وغرباً وشرقاً. ربما يُفسّر ذلك هذا الدعم والترحيب الغربي بنجاح قوى سياسية دينية بالوصول للحكم، حيث لهذه القوى سجلٌّ سلبيٌّ كبير في تاريخ العلاقة مع القطبين الشيوعيين في مرحلة الحرب الباردة (روسيا والصين)، وهما القطبان اللذان يُنافسان الآن الغرب و«حلف الناتو» على قيادة العالم وثرواته ومواقعه الإستراتيجية، إضافة إلى الأهمية التي يوليها الغرب لتاريخ هذا التيار السياسي الديني من حيث علاقاته الخاصة مع دول غربية ومن ناحية سلبيته تجاه التجربة الناصرية في مصر.
من غير المعلوم بعد كيف ستكون الأوضاع السياسية في مصر خلال المرحلة القادمة، وكيف ستتغيّر موازين القوى على الأرض، ومن الذي ستدعمه القوى الخارجية ومن ستحارب، ومن ستكون له ،مستقبلاً، حظوة اتخاذ القرارات السياسية والأمنية الحاسمة في بلدٍ تتنافس فيه الآن مرجعيات حكومية وعسكرية و«ميادينية»، وتُراهن إسرائيل على بقائه ضعيفاً متصارعاً مع نفسه، ومشلول الحركة خارج حدوده!.
ويا ليت «حزب الحرية والعدالة» في مصر الذي أوصل الدكتور محمد مرسي للحكم، قد أدرك أن «ثورة يوليو» التي ربما قصّرت فعلاً في المسألة الديمقراطية كأحد أجنحة «الحرية»، لكنّها نجحت حتماً في معارك التحرّر الوطني وفي استقلال الإرادة الوطنية المصرية، ولأنّها حققت “العدالة” الاجتماعية للشعب المصري. فلولا «ثورة يوليو» ما كان ممكناً للدكتور مرسي (وغيره من ملايين الشعب المصري) أن ينهي تعليمه الثانوي ولا الجامعي، وهو ابن عائلة مصرية محدودة الدخل، فكسْر احتكار التعليم العالي للعائلات الميسورة من خلال تعميم التعليم المجاني كان أحد أبرز الإنجازات الاجتماعية لثورة يوليو، هذه الثورة التي انقلب عليها وعلى مسارها السياسي والاجتماعي وعلى دورها القومي العربي، نظام السادات- مبارك السابق، ولم تنجح «ثورة يناير» حتى الآن من إزالة رواسب هذا الإنقلاب على «ثورة يوليو».
قد يعتبر البعض أنّ الإشارة الآن إلى حقبة جمال عبد الناصر هي مجرّد حنين عاطفي لمرحلةٍ ولّت ولن تعود، بينما يُغرق هذا البعض الأمَّة في صراعاتٍ وخلافاتٍ عمرها أكثر من 14 قرناً، ونتائج تلك الصراعات لن تكون إعادة نهضة الأمَّة العربية، بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون «الدولة اليهودية» نموذجاً لدويلاتٍ دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!. فاليوم تشهد مصر وكل بلاد العرب «حوادث» و«أحاديث” طائفية ومذهبية وإثنية لتفتيت الأوطان نفسها، لا الهويّة العربية وحدها.
إنّ استذكار حقبة ناصر في مصر ليست ابتعاداً عن الحاضر أو تجاهلاً للمستقبل أو حنيناً لماضٍ يفتقده عشرات الملايين من العرب، بل هو دعوةٌ للمقارنة بين نهجٍ «أخواني» يسود الآن في التعامل مع الأزمات، مقابل نهج «ناصري» واجه أزماتٍ أكبر، داخلياً وخارجياً، وواجه صراعات لم تزل مستمرّة منذ منتصف القرن العشرين.
لقد استطاع جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القيادي، أن يحقّق للمرّة الأولى صحوةً عربية تؤكّد ضرورة التحرّر الوطني والاستقلال القومي والانتماء إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة، وتدعو إلى وحدة وطنية شعبية في كلّ بلدٍ عربي، وإلى استخدام الوسائل السلمية في التغيير وفي الدعوة للوحدة العربية، وإلى نهضةٍ عربيةٍ شاملة في الأطر كلّها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وصحيحٌ أنّ «مرحلة ناصر» انتهت منذ أربعة عقود، لكن دروسها للحاضر والمستقبل ما زالت قائمة، فالهُويّة العربية هي حالة انتماء لكل العرب ولم يخترعها جمال عبد الناصر، وهي ليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته ليختلف بشأنه العرب، بل هي هُوية ثقافية مشتركة لكلّ سكّان الأمّة العربية بغضّ النظر عن طوائفهم ومذاهبهم وأصولهم الإثنية. ثمّ أنّ النهضة العربية الشاملة تحتاج إلى دورٍ مصريٍّ فاعل وإلى تكاملٍ بين وضوح الهويّة العربية وبين البناء الديمقراطي السليم وبين الحرص على أولوية التحرّر الوطني واستقلالية القرار السياسي.
أيها المصريون.. أعيدوا لمصر ولكل العرب مصر التي نفتقدها منذ أربعة عقود.
مصر العربية التي لا تُهيمن عليها اتجاهات فئوية ولا تستنزفها صراعاتٌ طائفية أو أيديولوجية، ولا تلهيها معارك هامشية عن استعادة دورها القومي المنشود. مصر التي قوّتها في عروبتها، والتي أمنها لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربية ومغربها ووادي نيلها الممتد في العمق الإفريقي.
ومن المهمّ أن يدرك قادة النظام السياسي الحالي في مصر أنّ «الشرعية» التي يستندون إليها في قراراتهم هي موضع تشكّك وتحفّظ من غالبية الشعب المصري، فالفارق كبير بين “قانونية “ الرئاسة وبين «شرعيتها» الشعبية. فلا الرئيس حصل على تأييد أكثرية من يحقّ لهم الإقتراع ولا الدستور الأخير أيضاً فاز بهذه النسبة من الموافقة الشعبية. هنالك ضرورةٌ إذن بالعودة إلى الشعب وبالاحتكام لخيارات الأكثرية فيه.
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
Leave a Reply