بقلم: صبحي غندور
كم هو مؤسفٌ هذا المزيج اليومي من الأخبار القادمة من العراق وسوريا وفلسطين، حيث الضّحايا هم خليطٌ من ممارسات الاحتلال في الجانب الفلسطيني، ومن الصّراعات الفئويّة المحليّة والإقليمية في الجانب الآخر! وفي الحالتين، هناك إرهاب يُمارس على المدنيين الأبرياء، بعضه من احتلال استيطاني ظالم، وبعضه الآخر أصبح الآن متمثّلاً بجماعاتٍ تستغّل أسماء دينية إسلامية بينما هي في الواقع تخدم المشاريع الصهيونية والأجنبية، الساعية إلى تقسيم وتفتيت البلاد العربية إلى دويلات مذهبية وإثنية.
إنّ الحروب الأهليّة هي طاحونة الأوطان في كلِّ زمانٍ ومكان. وهاهي المجتمعات العربيّة أمام تحدٍّ خطير يستهدف كل من وما فيها. هو امتحانٌ جدّي لفعل المواطنة في كلّ بلدٍ عربي إذ لا يمكن أن يقوم وطنٌ واحد على تعدّدية مفاهيم المواطنة. وحينما تسقط المواطنة في الامتحان، يسقط الوطن بأسره.
وما يحدث حاليّاً في عددٍ من البلاد العربيّة هو امتحان جدّي وصعب لهذه الأوطان، من حيث قدرتها على التّعامل مع الشروخ والانقسامات التي تنتشر كالوباء في جسمها الواهن، وما فيه أصلاً من ضعف مناعة.
صحيحٌ أنّ هناك قوىً خارجيّة تعمل على تأجيج الصراعات الداخليّة العربيّة، وأنّ هناك مصلحة أجنبيّة وإسرائيليّة في تفكيك المجتمعات العربيّة، لكن العطب أساساً هو في الأوضاع الداخليّة التي تسمح بهذا التدخّل الخارجي، الإقليمي والدولي.
إنّ البلاد العربيّة لا تختلف عن المجتمعات المعاصرة من حيث تركيبتها القائمة على التعدّديّة في العقائد الدينيّة والأصول الإثنيّة، وعلى وجود صراعات سياسيّة محليّة. لكن ما يميّز الحالة العربيّة هو حجم التصدّع الداخلي في أمّةٍ تختلف عن غيرها من الأمم بأنّها أرض الرسالات السماويّة، وأرض الثروات الطبيعيّة، وأرض الموقع الجغرافي الهام. وهذه الميزات الثلاث كافية لتجعل القوى الأجنبيّة تطمح دائماً للاستيلاء على هذه الأرض أو التحكّم بها والسيطرة على مقدّراتها.
وقد كان من الطبيعي أن تمارس القوى الأجنبيّة الطامعة بالأرض العربيّة، سياسة «فرّق تسد»، وبأن تفكّك الأمّة إلى كياناتٍ متصارعة فيما بينها وفي داخل كلٍّ منها، وبأن تزرع في قلب هذه الأمّة جسماً غريباً يقوم بدور الحارس لهذا التفكّك، فأصبحت الأمّة العربيّة تبعاً لذلك، رهينةً لمخطّطات الخارج ولأجندة خاصّة أيضاً بهذا الجسم الغريب المزروع في قلبها.
لكن هل يجوز إلقاء المسؤوليّة فقط على «الآخر» الأجنبي أو الإسرائيلي فيما حدث ويحدث في بلاد العرب من فتن وصراعات طائفيّة وعرقيّة؟! إنّ إعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم في خدمة الطّامعين بهذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فيه تثبيتٌ لعناصر الخلل والضعف وللمفاهيم التي تغذّي الصراعات والانقسامات.
إنّ غياب الولاء الوطني الصحيح في معظم البلاد العربيّة مردّه ضعف مفهوم الانتماء للوطن وسيادة الانتماءات الفئويّة القائمة على الطّائفيّة والقبليّة والعشائريّة. ويحصل الضّعف عادةً في الولاء الوطني حينما تنعدم المساواة بين المواطنين في الحقوق السياسية والاجتماعيّة، وحينما لا تكون هناك مساواة أمام القانون في المجتمع الواحد.
أيضاً، إنّ غياب الفهم الصحيح للدّين والفقه المذهبي وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو البيئة المناسبة لأي صراع طائفي أو عرقي يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتنوّع والتّعدّد، إلى عنفٍ دموي يُناقض جوهر الرّسالات السماويّة والحكمة أصلاً من وجودها على الأرض!
ولعلّ أسوأ ما في الواقع العربي الرّاهن هو حال التمزّق على المستويات كلها، بما فيها القضايا التي لا يجوز أصلاً الفصل بينها. فشعار الديمقراطيّة أصبح نقيضاً لشعار التحرّر الوطني، أو بالعكس! والولاء للوطن أصبح يعني تنكّراً للعروبة وللعمل العربي المشترك! والاهتمامات بالشؤون الدينيّة أصبحت مدخلاً للانقسامات والصراعات والخطر على الوحدة الوطنيّة!. ويرافق هذا الحال من التمزّق في القضايا والأهداف، رؤى خاطئة عن «المثقّفين العرب» من حيث تعريفهم أو تحديد دورهم. فهذه الرؤى تفترض أن «المثقّفين العرب» هم جماعة واحدة ذات رؤية موحدة، بينما هم في حقيقة الأمر جماعات متعدّدة برؤى فكرية وسياسية مختلفة قد تبلغ أحياناً حدّ التعارض والتناقض. وتوزيع دور هذه الجماعات لا يصحّ على أساس جغرافي أو إقليمي، فالتنوع بينها حاصلٌ على معايير فكرية وسياسية.
ولنكن صريحين بوصف الواقع، فالضعف هو الآن أيضاً في فئة «المثقّفين» المعتقدين فعلاً بالهويّة العربيّة، والرافضين فكريّاً وعمليّاً للفصل بين أهداف تحتاجها الأمّة العربيّة كلّها. الضعف هو في غياب التنسيق والعمل المشترك بين من هم فكريّاً في موقع واحد، لكنّهم عمليّاً وحركيّاً في شتات بل في تنافسٍ أحياناً. ولعلّ المدخل السليم لمعالجة هذا الوهن والضعف، هو إدراك مخاطر هذا الانفصام الحاصل بين الهويّة الثقافيّة العربيّة الواحدة، وبين الانتماءات الأخرى التي يتمّ الآن وضعها في حال تناقضٍ مع الهويّة العربية المشتركة.
فعلى الرغم من التّحديات والمخاطر الكبرى التي تتعرّض لها الآن الأوطان العربيّة، متفرّقةً أو مجتمعة، فإنَّ الإجابة عن سؤال: «ما العمل» ما زالت متعثّرة على المستويين الوطني الداخلي، والعربي العام المشترك.
ربّما المشكلة في السؤال نفسه، وليست بالإجابة عنه. فسؤال: «ما العمل»، داخل الوطن أو الأمّة، يقتضي أولاً الاتفاق على فهمٍ مشترَك للمشكلة والواقع، ومن ثمّ تحديد الهدف المراد الوصول إليه.
المشكلة الآن على المستويين الداخلي والعربي العام هي في غياب الرؤية المشتركة التي منها تنبثق برامج «العمل» ومراحله التنفيذيّة.
أيضاً، هذا السؤال يتطلّب معرفة من هم المعنيّون بتنفيذ «العمل» وبالقائمين عليه..
ولأنّ الحركة السليمة هي تلك التي تنبع من فكرٍ سليم… ولأنّ الفكر السليم هو الذي يستلهم نفسه من الواقع ليكون حلاً لمشاكله، فإن سؤال: «ما العمل» للخروج من هذا الواقع العربي السيء يتطلّب النهوض أولاً بدور المفكّرين والمثقّفين والناشطين العرب، الذين يعتقدون بالانتماء لهويّة عربية مشتركة تُظلّل الهويّات الفرعية السائدة، عوضاً عن هيمنة هذه الهويّات على ما هو مشترَك بين العرب.
إنّ الخروج من مستنقع الانقسامات المهيمنة الآن على الأمّة العربية ومن ثمّ العمل لبناء نهضة عربيّة منشودة يتطلّب بدايةً القناعة بوجود هويّة عربيّة حضاريّة مشتركة بين البلاد العربيّة، وبأنّ هذه الهويّة هي هويّة ثقافية لا تقوم على عنصر قبلي أو على دين أو مذهب، رغم خصوصية علاقتها بالبُعد الحضاري الإسلامي من حيث التاريخ واللغة. إنّ العمل من أجل النهضة العربيّة يعني الانتقال من حال التخلّف والجهل والأميّة إلى بناء مجتمع العدل وتكافؤ الفرص والتقدّم العلمي. مجتمع تشارك فيه المرأة العربيّة بشكلٍ فعّال في مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة. مجتمع يرفض الطائفية والمذهبية السياسية ويقوم على مفهوم المواطنة الواحدة التي لا تميّز على أساس خصوصيات في الوطن الواحد.
أيضاً، إنّ تحقيق النهضة يتوجّب الضغط على كل المستويات الرسميّة والشعبية العربيّة من أجل تحقيق التكامل العربي والسير في خطوات الاتحاد التدريجي بين الدول العربيّة. كذلك، فإنّ الوصول للنهضة يتطلّب التشجيع على الحياة الديمقراطيّة السليمة في كل البلاد العربيّة. كما تتطلّب الديمقراطية التمييز بين أهمّية دور الدين في المجتمع والحياة العامة وبين عدم زجّه في اختيار الحكومات والحاكمين وأعمال الدولة وسلطاتها التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة.
وأيضاً، فإنّ الدعوة للنهضة العربيّة والوصول إليها يفرضان التمييز بين الحقّ المشروع في مقاومة الاحتلال على الأرض المحتلّة فقط، وبين الالتزام برفض أسلوب العنف في العمل السياسي، وباختيار نهج الدعوة السلميّة والوسائل الديمقراطيّة لتحقيق التغيير المنشود في الحكومات والمجتمعات.
وحينما يتّفق «مثقّفون وناشطون عرب» على هذه القضايا ويعملون وينسّقون من أجلها، فإنّ ذلك يصبح مخرجاً مهماً من حال التشرذم والإنقسام السائد حالياً ومدخلاً عملياً لوجود وتحقيق مشروع نهضةٍ عربية.
Leave a Reply