وليد مرمر
بعدما نجحت قمة طهران الأخيرة بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وإبراهيم رئيسي، بلجم عملية التوغل التركية المتوقعة في شمال سوريا –ولو مؤقتاً– كان لا بد للرئيس التركي من التحرك في مكان آخر، فاختار هذه المرة، استهداف حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.
القصف التركي استهدف منتجعاً سياحياً في محافظة دهوك، يوم الإثنين الماضي، موقعا 40 مدنياً بين قتيل وجريح. وفيما اتهمت بغداد جارتها الشمالية بالمسؤولية عن القصف نفت أنقرة أية صلة لها بالعملية ولكن الإنكار التركي لم يثنِ العراق عن تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي ضد الاعتداء الآثم.
يقول المحللون إن العملية الأخيرة في دهوك جاءت ضمن عملية «قفل–المخلب» التي أطلقتها وزارة الدفاع التركية في نيسان (أبريل) الماضي داخل الأراضي العراقية لاستهداف مواقع ومخابئ مسلحي حزب العمال الكردستاني.
وتعتبر تركيا، حزب العمال الكردستاني هذا، إلى جانب «وحدات حماية الشعب» التابعة لـ«قسد» في سوريا، وجهين لعملة «إرهابية» واحدة وهما يشكلان خطراً مباشراً على أمنها القومي. وهو ما دفع أردوغان إلى العمل منذ سنوات على تسويق فكرة إقامة منطقة أمنية بعمق 30 كيلومتراً داخل الحدود السورية، تحت ذريعتين. الأولى، إبعاد خطر «قسد»، والثانية تأمين مناطق آمنة لإعادة توطين حوالي أربعة مليون لاجئ سوري على الأراضي التركية.
لكن يبدو جلياً للمراقبين بأن الاستراتيجية التركية المعلنة في سوريا، ليست إلا ذراً للرماد في العيون حيث ربما ما زالت الأطماع الإمبراطورية البائدة تحفّز أردوغان على محاولة بسط سيطرته على مناطق في سوريا والعراق بغية إحياء ما يمكن إحياؤه من إرث أجداده العثمانيين.
منطقة آمنة أم احتلال مقنّع؟
وجاء في تقرير نشرته صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، مطلع الأسبوع الماضي، أن «الوضع الحالي في شمال غربي سوريا يعكس دور تركيا الفعّال في رسم مستقبل المنطقة وذلك بعدما نفّذت عمليات عسكرية سابقة لدفع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعيداً عن الحدود. ففي المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا يتعلم السوريون في المدارس، اللغة التركية كلغة ثانية ويُعالَج المرضى في المستشفيات التي بنتها تركيا كما وتغذي تركيا المناطق تلك بالكهرباء والليرة التركية هي العملة الأكثر تداولاً».
ورغم نفي المسؤولين الأتراك، رغبة بلادهم بتغيير النسيج الاجتماعي لمناطق سيطرتهم، فإن التقرير يوضح أن تركيا تدفع رواتب أكثر من 50 ألف مقاتل سوري من مقاتلي المعارضة. وهي قد عمدت إلى نشر قواتها الخاصة، وتعدادها 15 ألفاً، داخل الأراضي السورية كما وقامت بتشييد قواعد عسكرية عديدة على الحدود وأقامت جداراً حدودياً بطول 900 كيلومتر.
ولفتت «فاينانشال تايمز» إلى أن «دور أنقرة يمثل أكبر بصمة تركية في دولة عربية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية في عام 1918».
غياب الحل السياسي
في ظل غياب أي توجه دولي جدي لتفعيل العملية السياسية وعودة اللاجئين السوريين، فإن ما تم التفاهم عليه بين معظم الأطراف المتصارعة كحل مرحلي سيصبح مع انسداد الأفق السياسي حلاً نهائياً.
هذا الأمر يتأكد في غياب التطورات الميدانية التي أصبحت تحكمها التفاهمات والتوازنات الدولية والإقليمية. وهذا ما أوردته «فاينانشال تايمز» بتأكيدها على أن «الصراع مجمّد حالياً في ظل عدم فعالية الجهود الدولية للتوصل إلى حل سياسي كما أن الاهتمام الغربي بالوضع السوري قد تقلّص، وهذا ما يشكل خطراً داهماً على وحدة الأراضي السورية في ظل عدم تمكن الدولة من استعادة سيطرتها على كامل الأراضي». وهذا ما اعتبرته الكاتبة في «مجموعة الأزمات الدولية»، دارين خليفة، أشبه بـ«تقسيم فعلي للبلاد».
حسابات أردوغان
يقول المحللون أن تراجع شعبية أردوغان ورغبته في تحقيق انتصار في الانتخابات المقبلة سيكون عاملاً مؤثراً في التطورات على حدوده الجنوبية في الأسابيع القادمة. إذ يأتي توسيع أردوغان لهامش تحركه على خلفية شعوره أن الغرب وروسيا منشغلان بالحرب الأوكرانية وبالتالي فقد يكون التوقيت الحالي مثالياً لمحاولة تمرير مشاريعه المعلّقة واستثمارها انتخابياً. ورغم أن المعارضة تشارك أردوغان في عدائيته للأكراد إلا أنها تقف ضد دعمه للفصائل السورية بل إنها قد تعهدت بإعادة العلاقات السياسية مع دمشق فيما لو فازت في الانتخابات.
موقف الدولة السورية
برغم التباين بين الدولة السورية و«قسد» حول تكتيك العملية السياسية والشكل النهائي للحل المرتَقب إلا أن وجود عدو تركي واحد في الشمال قد دفع بهما إلى تجاوز خلافاتهما القائمة وإنشاء «تحالف عسكري» شبه معلَن عزّزه تمركز مئات الجنود الروس في القامشلي وإرسال مئات الجنود السوريين إلى مناطق سيطرة «قسد» سيما مدن الباب ومنبج وكوباني.
وبذلك سيساهم الجيش السوري بجهود التصدي لأي توغل تركي محتمل بطرق الدفاع الكلاسيكية التي تقودها الدبابات والمدرعات فيما ستقوم «وحدات الحماية» الكردية بتفعيل حرب العصابات لمقاومة هذا التوغل لإيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر في صفوفه.
لكن سيناريو الاجتياح يبقى مُستبعداً في الوقت الراهن لعدم رغبة العواصم الإقليمية والدولية الفاعلة بانزلاق الأمور إلى مواجهات مباشرة. فحلفاء الأمس قد يصبحون أعداء الغد وستختلط الأوراق في منطقة لا ينقصها المزيد من التعقيدات.
الوضع على حاله
لعل الثمن الذي أُعطي لأردوغان من الروس والإيرانيين وبمباركة الأمم المتحدة وواشنطن لتثبيطه عن شن عمليته العسكرية ولتخليه عن أحلام «الخلافة» لم يكن بخساً البتة. فمقابل صرف نظره عن منطقته الآمنة، وفيما تعاني الأسواق العالمية من نقص شديد في المحاصيل الزراعية وخصوصاً القمح الأوكراني العالق في الموانئ، أُعطي «السلطان» دور «تاجر الحبوب بين أسيا وأوروبا»، حيث افتتح الأربعاء الماضي في اسطنبول مركزاً لتنسيق صادرات الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود بموجب الاتفاقات الموقعة منذ حوالي الأسبوع وبعضوية ممثلين عسكريين ومدنيين من روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة وتركيا. وسيعمل المركز على تسجيل وتتبع السفن التجارية التي ستشارك في القوافل ومراقبتها وتفتيشها خلال التحميل في الموانئ الأوكرانية وعند الوصول إلى الموانئ التركية كما سيساهم في إنشاء بورصة دولية تتحكم في أسعار الحبوب قد يكون لأنقرة النفوذ الأقوى فيها.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply