مثل عادته في كل مرة أطلَّ بكل تواضع المنتصِر وهدوء الواثق الأمين العام السيِّد حسن نصرالله عشية الهزيع الأخير من معركة الانتصار في الجرود من الجهتين السوريَّة واللبنانية، لكنَّه هذه المرَّة كان أكثر هدوءاً وابتساماً لأنه لم يَرِدْ أن يظهر بمظهر يُؤخذ على أنَّه كيدي أو متشفِّي من الغير، فلم «يفش خلق» النَّاس الذين هالتهم وضاعة البعض في تيَّار «المستقبل» وحزب «القوات اللبنانية» الواقفين عكس التيَّار الشعبي والوطني والمغرِّدين خارج السرب ضد تطهير المقاومة للبؤرة التكفيريَّة التي ظلَّتْ تبث سمومها في جسد الوطن زهاء ثلاث سنوات وكانت مصدر كل الجرائم والقتل والخطف والسيارات المفخَّخة والموبقات.
ويحق للسيِّد نصرالله أن يزهو كبقية اللبنانيين بهذا النصر المشرِّف الجديد الذي أعاد للمقاومة بريقها وصورتها والإجماع الوطني عليها كما من قبل وذلك في أبهى حلةٍ وطنية، برغم ملايين الدولارات السعودية والإسرائيلية والغربية التي أُنفقت على الإعلام لتشويه سمعتها بعد حرب تمُّوز 2006. فالإجماع بين جميع اللبنانيين، وخصوصاً الشركاء المسيحيين في الوطن، الذي تجلى على مواقع «السوشال ميديا» ووسائل الإعلام التقليدية، فاق كل التوقعات وقلبها رأساً على عقب وحمل شخصاً معادياً كسمير جعجع على الاعتراف أخيراً بتضحيات رجال المقاومة، وذلك بعد أن رأى بأم عينه شباب وبنات قرية القاع المسيحية المحسوبة على «القوات» يتبرعون بالدم للمقاتلين. إِذْ لم يخب ظن إمام الوطن والمقاومة السيِّد موسى الصدر عندما فكَّ اعتصامه في العاملية فقط من أجل حماية المسيحيين في القاع ودير الأحمر وباقي البلدات المسيحية في البقاع من إبادة طائفية وشيكة خلال الحرب الأهلية.
لقد شاهد جعجع ومن معه من قرطة حنيكر كيف توجَّه المسيحيون إلى مقبرة روضة الشهيدين حاملين صلبانهم وصور السيدة مريم العذراء ليعبِّروا عن احترامهم وتبجيلهم لشهداء المقاومة ويشاركون عوائلهم في عرس الأتراح الذي ستليه أفراح النصر. ولا شك انه رأى السيدة الأولى المقاوِمة أندريه أميل لحُّود، عقيلة العماد المقاوِم، وهي تطبخ الطعام للمجاهدين في الميدان. كما لاشك بأنَّه سمع رائعة الكاتب الإذاعي روني ألفا الوجدانية على إذاعة «صوت لبنان» بحق المقاومة وتضحيات أبنائها والتي سرت كالنار في «السوشال ميديا» فلم نمل من ترداد سماعها طيلة النهار، وأكيد أكيد أكيد أخبره وزير إعلامه الرياشي بسيل الانتقادات الحادة على توصيف موقع «14 آذار» البائد لشهداء المقاومة وتعدادهم من أجل الشماتة ووصفهم بالميليشيا، وامتعاض الفنانين والنواب والإعلاميين والسياسيين من ذلك وعلى رأسهم جو سمعان وشربل خليل وناصر فَقِيه! حتَّى المحطات التلفزيونية التي لا تعد حليفة للمقاومة تنافست فيما بينها على مديح المقاومين حماة الوطن وكادت LBC تتفوق على محطة «الجديد» وعندما تسمعها لا تظن إنها يوماً خرجت مي الشدياق. لكن المفاجأة الكبرى كانت لمحطة MTV التي ذات يومٍ كانت تروِّج لأبي مالك التلي، الذي ترك اليوم تلته، خلال الإفراج عن راهبات معلولا!
حرب الأيام الستة التي خاضتها المقاومة اعادت تصويب القضية وفرزت النَّاس إلى فئتين من دون منطقة رمادية: إمَّا مع المقاومة والجيش أو مع ذبِّيحة التكفير والإجرام! هذه المعركة كادت تُمحي آثام الحروب الإسرائيلية وشؤم شهر تمُّوز وقبله حزيران وهما شهرا هزائم العرب. لقد ثأرت معركة الجرود لكل مظلوم ذبحه التكفيريُّون المجرمون ومنهم جنود الجيش اللبناني وثأرت للدين الاسلامي من تشويه السفَّاحين المنحرفين وللبشرية من وحوش غير طبيعية وانتقمت لذلك الجندي الذي أقسم قبل ذبحه بالقول «والله لنمحيها».
لقد صال وجال التكفيريُّون الوهابيون طويلاً في الإعلام وألقوا الرعب في نفوس العالم إلى أن كانت نهاية خرافتهم وقواهم الورقية على يد رجال الله. كان التحالف الغربي يصر بأن القضاء على الإرهابيين يتطلب عشر سنوات على الأقل لكنَّ هذا تقدير لقوته فقط وسببه احتضان حلفائه في الرياض والدوحة وتركيا للإرهاب وسببه مماطلته لغايات سياسية واستعمارية بالية معروفة، ولم يكن ينتبه التحالف لقدرات المقاومة والجيش السوري والعراقي والإيراني واللبناني والحشد الشعبي بالتنسيق مع روسيا.
لكن إذا كان العزاء في بيت «المستقبل» وخصوصاً لدى فؤاد السنيورة الذي بدا وكأنه الناطق السياسي للتلي وجماعته، ولكل سنيورة وئام وهَّاب يليق بحضرته، إلا أنَّ الجنازة هي في تل أبيب التي لا شك راقبت عن كثب، وشاهدت عدسات الأقمار الاصطناعية العالمية، كيف تمكَّن أقمار المقاومة من تغيير المعادلة التاريخية وحرمها من حلمها في الاستيلاء على منطقة القَلَمون الاستراتيجية العالية الكاشفة للمنطقة برمَّتها وكيف استطاع المقاومون دك الحصون الصخرية المدشمة والوعرة والكهوف المحصنة التي لا تصلها قنابل الطائرات والتي ترتفع أكثر من 2500 متراً عن سطح البحر، بينما أعلى نقطة في الجليل الأعلى تبلغ أقل من 1500 متراً! هل من سؤال بعد ذلك؟
وباعتراف العدو نفسه نفذت المقاومة هجومها بالتنسيق مع ثلاثة جيوش وهي تُحارب على سبع جبهات، لكنه نسي الجيش الروسي إضافةً إلى الجيوش اللبنانية والسورية والإيرانية، وفعلت المقاومة كل هذا بمهنية ومهارة وحرفية عالية وبكفاءة أفضل جيوش العالم وبأقل الخسائر البشرية الممكنة.
وفي خضم المعركة لم ينس السيِّد حسن أنّْ يوجه التحية للشعب اليمني الصامد الواقف مع فلسطين رغم العدوان السعودي عليه، وللمقدسيين الذين يجابهون قوات الإحتلال الإسرائيلي بصدورهم العارية حمايةً للمسجد الأقصى الذي دنسه العدو بينما شيخ الحرم المكي الموظف عند بني سعود اعتبر أنَّ ما يجري في القدس هو شأنٌ داخلي ودعا وهابيون آخرون للتخلُّص من الفلسطينيين وسط صمت يشبه صمت القبور في الشارع العربي!
مأساة إسرائيل وبني سعود وبقايا 14 آذار تكمن في أنهم باتوا يعرفون اليوم بأن للمقاومة سلاحاً سرياً آخر كبيراً هو غير السلاح المادي الذي سيقرر مصير المنطقة برمَّتها!
Leave a Reply