ما حدث ويحدث في القدس المحتلة، من ردود فعل فلسطينية هامّة على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في منطقة المسجد الأقصى، هي مسألة تتكرّر في الخمسين سنة الماضية، منذ الحريق الذي حدث في العام 1969 حينما أقدم أحد الأشخاص على إشعال حريقٍ في الجهة الجنوبية للمسجد الأقصى يوم 21 آب (أغسطس) 1969، وحيث أحدثت هذه الجريمة الإسرائيلية المدبّرة ثورة غاضبة في أرجاء العالم الإسلامي، وكان من تداعيات الحريق آنذاك عقد أول مؤتمر قمّة إسلامية في الرباط بالمغرب. وكان لذلك العمل الإجرامي الذي طال مقدّساً هو ثالث الحرمين لدى المسلمين، ردود فعل كبيرة في العالم الإسلامي. وشجب، كالعادة، قادة الحكومات هذه الجريمة، وجرت أعداد من المظاهرات الشعبية، لكن الاحتلال الإسرائيلي استمرّ وما زال قائماً!
فمشكلة ما يحصل من ردود فعل حتّى الآن أنها تنحصر في مسألة المسجد الأقصى ولا تتواصل لكي تعالج أساس القضية وهو الاحتلال الإسرائيلي للقدس ولكلّ الأراضي الفلسطينية. فالضجيج الرسمي الفلسطيني الحاصل الآن بشأن المسجد الأقصى لا يشمل كل القدس والقضية الفلسطينية. فالإستيطان والتهويد يتصاعدان في القدس والضفة منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، إن لم نقل منذ العام 1967، ولم تردعهما كل ردود الفعل التي حدثت وتحدث!
فكيف يمكن المراهنة الآن من جديد على مزيد من التفاوض مع إسرائيل برعاية إدارة ترامب، إذا كان نتنياهو ومعظم أعضاء حكومته يرفضون وقف الإستيطان والانسحاب من القدس وحقّ العودة للفلسطينين، وهي القضايا الكبرى المعنيّة بها أي مفاوضات أو «عملية سلام» مستقبلية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي؟ ثمّ كيف يأمل الفلسطينيون بموقف أميركي فاعل إذا كانت إدارة ترامب والكونغرس الأميركي يتحدّثون عن القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل؟
وما الذي يقصده المسؤولون الأميركيون حينما يتحدّثون عن «أهمّية تقديم التنازلات والتوصّل إلى حلول وسط»، فهل سيكون هناك «نصف انسحاب إسرائيلي» من الضفّة «ونصف إزالة للمستوطنات»، وبالتالي «نصف دولة فلسطينية»؟ وهل سيقبل الفلسطينيون بذلك؟
وهل تراهن إدارة ترامب الآن على استثمار نتائج ما حدث ويحدث في البلاد العربية؛ من تهميش للقضية الفلسطينية، ومن تفجير لصراعات وحروب أهلية عربية، ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، من أجل دفع إسرائيل لقبول «المبادرة العربية» بعد الحديث عن تعديلات في نصوصها، فيعمّ التطبيع «العربي والإسلامي» مع إسرائيل قبل انسحابها من كلّ الأراضي العربية المحتلة في العام 1967، وقبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة؟
مفهومٌ هذا الإلحاح الإسرائيلي على المفاوضات المباشرة دون شروط، ففي ذلك استئنافٌ أيضاً لما حصل في السنوات الماضية من قضم للأراضي الفلسطينية ومن «تهويد» للقدس ومن بناء مستوطنات جديدة فيها وفي عموم الضفّة الغربية، طبعاً مع تحسين «صورة إسرائيل» في العالم من خلال إظهار قادة فلسطينيين يتفاوضون مع أركان الحكم الإسرائيلي. مفهومٌ هذا الإصرار الإسرائيلي على المفاوضات دون شروطٍ مسبقة، لكن لا يوجد تفسير مقنع لهذا التراجع المتراكم في الموقفين الفلسطيني والعربي بعد نصف قرن من الاحتلال الإسرائيلي.
إنّ إسرائيل (يدعمها الموقف الأميركي) حرصت منذ حرب العام 1967 على التمسّك بأسلوب المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وأي طرف عربي؛ ممّا يشرذم الموقف العربي أولاً (كما حدث بعد المعاهدة مع مصر)، وممّا يؤدّي أيضاً إلى تقزيم القضية الفلسطينية وجعلها في النهاية مسألة خلاف محصورة فقط بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني!
فأين هو الضغط الفلسطيني والعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً من خلال توفير عدة عناصر غائبة الآن، وأهمها تحقيق وحدة موقف فلسطيني وعربي يقوم على رفض أي مفاوضات مع إسرائيل ما لم يتمّ الوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات الاستيطان في كلّ الأراضي المحتلّة، إضافةً إلى ضرورة إنهاء الحصار القائم على قطاع غزّة، وبأن يترافق ذلك كلّه مع تجميد كافة أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وبالتأكيد على خيار المقاومة المسلّحة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. حيث بذلك، تكون هناك مصداقية للموقف الرسمي الفلسطيني والعربي، وتكون هناك خطوات عربية جدّية داعمة لأي تحرّك دولي يمكن أن يستهدف الضغط على حكومة نتنياهو.
وستعود القضية الفلسطينية من جديد إلى أروقة الأمم المتحدة مع نهاية شهر سبتمبر القادم الذي يشهد عادة انعقاد دورة الجمعية العامة، رغم تكرار هذا الأمر عشرات المرّات في العقود الستّة الماضية دون تنفيذ الحدّ الأدنى من قرارات دولية متعدّدة بشأن حقوق الشعب الفلسطيني، والذي يعاني بعضه المقيم على أرضه من عسف الاحتلال، وبعضه الآخر من ظلم وقهر اللجوء والتشرّد في بقاع العالم لأكثر من ستين عاماً.
فـ«الأمم المتحدة» هي التي شرّعت أصلاً الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، ولم تُجبر هذه المؤسسة الدولية «وليدها الأممي المصطنع» على احترام وتنفيذ أي قرارات صادرة عنها! ولم تنفّذ أي حكومة إسرائيلية قرارات عديدة صادرة عن «الجمعية العامّة» أو عن «مجلس الأمن» خاصّة بالقضية الفلسطينية!. فعلى ماذا المراهنات الرسمية الفلسطينية والعربية؟
إنّ حكومة نتنياهو كانت، وما تزال، تراهن على انقسامات وصراعات في الجسم الفلسطيني وفي عموم المنطقة العربية، وتجد مصلحةً كبيرة الآن في الأحداث الدموية الجارية وفي تصاعد الصراعات العنفية في المجتمعات العربية.
فكفى الأمَّة العربية والقضية الفلسطينية هذا الحجم من الانهيار ومن التنازلات، وكفى أيضاً الركون لوعود أميركية ودولية يعجز أصحابها عن تحقيق ما يريدون من إسرائيل لأنفسهم، فكيف بما يتوجّب على إسرائيل للفلسطينيين والعرب؟
Leave a Reply