يبدو أن «علقة» رئيس حزب «القوات» سمير جعجع «سخنة» مع تيَّار «المستقبل» وخصوصاً الرئيس سعد الحريري ولا يوجد في الأفق ما يوحي بالحلحلة بين الفريقين بعد أن تبادل أنصارهما الاتهامات وسيل الإهانات على السوشال ميديا وانقطاع جعجع عن زيارة بيت الوسط. ومهما حاول الأخير تبرير تصرفه وتملصه من المسؤولية منذ استدعاء الحريري إلى مملكة بني سعود وحتَّى عودته، إلا أن «الكتابة واضحة على الجدران» كما يقول الأميركيون، وهي أن الجرة انكسرت بين الحليفين بعد انكشاف أمر جعجع وريفي وغيرهما من الصقور في الانضمام لحملة السبهان الفاشلة في لبنان للإطاحة بزعامة سعد الحريري وإحداث فتنة أُريد لها أن تؤدي إلى صراع أهلي.
والمشكلة الأساسية عند جعجع أن الحرب الأهلية وضعت أوزارها لكنها مازالت عنده مستمرة، ولم تغادر عقله الميلشياوي وفكره ولذلك يتصرف على هذا الأساس ويُصاب بإخفاق تلو إخفاق منذ «حملة فِل» ضد الرئيس المقاوِم العماد أميل لحُّود إلى تنبؤاته الباطلة وتحالفاته الهشة التي لم تثبت أمام رياح التغيير والإصلاح. فلطالما أوهم جعجع، الجميع، ممن يهمهم أمر ضرب المقاومة في لبنان وخارجه وخاصة السعودية، أنه قادر على تأمين عشرة آلاف مقاتل «قواتي» لمحاربة المقاومة. وبغض النظر عن هذه «القدرة» المشكوك فيها أصلاً، إلا أن هذا دليل على عدم صدق جعجع بطي صفحة الماضي والانخراط في السلم الأهلي. ثم أن المرء يتساءل من أين سيأتي جعجع بالسلاح والمال ومن سيدعمه كالسابق أيام التحالف مع إسرائيل؟
بكل الأحوال مغامرة جعجع ضد الحريري قد تكلفه ثمن التحالف مع «المستقبل»، وطرد وزرائه من الحكومة ومحاربته انتخابياً، ولو أنه بعد تحمسه الشديد للاستقالة وعرقلة العهد العوني عاد وتراجع عن قرارين باستقالة وزرائه من الحكومة. حتى لو بقيت معه السعودية لن يتمكن جعجع من الخروج من الحفرة التي وضع نفسه فيها. فالذي حصل عبر محاولة إيجاد السعودية تغطية مارونية من خلال جعجع وسامي الجميِّل وسنية عبر أشرف ريفي والجراح والضاهر، أمر غير طبيعي حيث أن جعجع صاحب تاريخ أسود ومعروف لدى الطائفة السنية العروبية المعتدلة وهو مدان بقتل الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وبالتالي لن يكون من ضمن العناصر الحاضنة للسنة كما أراد بن سلمان. أصلاً تحالف سعد الحريري معه كان خطأ منذ البداية فوالده الراحل رفيق الحريري ساهم بوضعه في السجن و«قرنة شهوان» المؤلفة من أصدقاء اليوم والمتزلفين للحريرية، كانت من ألد أعداء الحريري الأب.
إذاً، للأسف مشكلة «القوات» هي رئيسها وحساباته الخاطئة وعلى اللبنانيين أن يسألوا أنفسهم هل هي صدفة أن الحرب الأهلية لم تكن لتتوقف لولا بقيت شوكة «القوات اللبنانية» قوية ومتحكِّمة بالمنطقة الشرقية؟ وهل صدفة أن صدامها العسكري مع الجيش يوم كان عون رئيساً مؤقتاً، والذي أضعفها عسكرياً، هو الذي سهل الوصول إلى حل في الطائف أنهى حرب لبنان ورضخت له «القوات»؟
لهذا قد تحمل الأعياد هدايا بالجملة للبنانيين نتيجة الوحدة الوطنية التي أدَّت للإفراج عن الحريري، منها عودة الحكومة بعد تشذيبها من الوزراء الشواذ خصوصاً الجراح والمرعبي. والإطاحة بالوزراء لن تقتصر على لبنان فحسب بل ستصل تداعياتها إلى أميركا حيث قد يُعزل وزير خارجيتها ريكس تيليرسون الذي تشنجت علاقاته مع ترامب وأحد أسباب ذلك صهره كوشنر وبسبب معالجته لقضية احتجاز الحريري في السعودية واختلافه عن البيت الأبيض بضرورة الإفراج عنه والحفاظ على استقرار لبنان بينما ترامب عبر صهره أيد خطوات بن سلمان الذي أعطاه «حلوانة» اعتقال خصم ترامب اللدود، الوليد بن طلال.
ولعل سعد الحريري اليوم على يقين كما أعلنت عمته بهيَّة من دون وجل، وهي الأقرب إلى أذنه مع ولديها، أنه لولا تصرُّف السيِّد حسن نصرالله الأخلاقي والمعنوي لما تم الإفراج عن ابن أخيها. لقد كان من السهل على المقاومة و«8 آذار» أن تسارع للانتقام والتشفي والمساهمة في شطبه من المعادلة ولو جاءت من عدو سياسي كبني سعود، كما فعل حتَّى أقرب المقرَّبين منه شقيقه وغيرهم لكن المقاومة مع الرئيسين تعاملت مع الموضوع بنبل وتسامح وإنسانية ولم ترض أن تُهان كرامة رئيس وزراء لبنان. وهذا بالضبط ما لم ترد بقايا «14 آذار» السبهانية أن تتفهمه عندما قامت المقاومة بترحيل التكفيريِّين من الجرود والقلمون نتيجة اتفاقيات التزمت بها المقاومة وحققت من خلالها تحرير أرض وأسرى لدرجة أن أشر أعدائها كانوا يطلبون ضمانتها في حفظ حياتهم. فالمقاومة هي ضمانة الوطن وعنصر قوته ولو كانت في بلدٍ غير لبنان لكان النَّاس «حطوها عالراحات»!
على الحريري البناء على هذه الأخلاقية السياسية والمناعة الوطنية الداخلية التي هي يجب أن تكون الحاضنة للسنة ولكل الطوائف، ومن حسن حظ لبنان اليوم وجود العماد عون على رأس السلطة وقد خبر الحريري بنفسه مدى مصداقية الجنرال وحفظه للعهود معه ومع غيره ولذلك هاهو رغم كل الحقد والسم السعودي يصرِّح الرئيس عون لصحيفة إيطالية أن سلاح المقاومة هو للدفاع وليس إرهابياً. وقد أحسن الحريري بالتصريح الذي يحاكي تصريح عون حول دور حزب المقاومة ووجوده داخل الحكومة وأنه لا يستخدم سلاحه في الداخل.
تبقى عقدة النأي بالنفس وهي تلعي النفس فعلاً بسبب الفهم المختلف لها لدى كل طرف، إلا أنها عبارة ممجوجة غير واقعية وسخيفة ويكفي أنها تفتقت عن «عبقرية» ميشال سليمان ونجيب ميقاتي وكان القصد منها فقط سوريا لا غير، للتملّص من العلاقات الأخوية التي تجمع البلدين التوأمين. والمشكلة في استخدام هذا النعي بالنفس هي أن كل المقصود هو حفظ ماء وجه السعودية بعد الفشل المدوِّي الذي منيت به إثر احتجاز حرية الحريري. فلماذا؟ وكيف يُطلَب من مقاومة انتصرت على أشرس عدو وحققت معجزة التحرير والردع الاستراتيجي واستعادت الثقة والكرامة وقوة لبنان بمقاومته وشعبه وجيشه، أن تتنازل وتنأى بنفسها وهي في عمق محور المقاومة في سوريا وحمت لبنان من خطر التكفير الطاعوني الذي مازال يفتك بدول كبرى مثل مصر مثلاً؟ وهل نأت السعودية بنفسها عن سوريا والعراق والبحرين واليمن؟ أم أن النأي بالنفس يتطلب السكوت عن جرائم بني سعود في هذه البلدان وخصوصاً عن مجازر اليمن؟ وهل النأي عن أزمات المنطقة ينطبق على إسرائيل أيضاً كما يتم الخلط اليوم بينه وبين الحياد؟ وهل النأي هو توطئة للتغاضي عن، وتسهيل إعلان الحلف السعودي الإسرائيلي؟ هذا ليس إلا نعياً للنفس ويجب أن يرفضه كل لبنان، مقابل مفهوم التوافق والتراضي والتحاور حول أزمات المنطقة حالة بحالة مع مراعاة خصوصية كل الظروف المحيطة بها.
Leave a Reply