شهد الأسبوع الأول من شهر آذار (مارس) الجاري انعقاد المؤتمر السنوي لمنظمة «آيباك» في العاصمة الأميركية، وهي المعروفة إعلامياً وسياسياً بأنّها «اللوبي الإسرائيلي» في الولايات المتحدة، بمشاركة واسعة من إدارة ترامب وأعضاء الكونغرس الأميركي وبحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
وهذا العام، كما في كل عام، يتساءل الكثيرون: أين «اللوبي العربي» في أميركا؟، بل السؤال ينطبق على معظم دول الغرب حيث تنشط القوى الصهيونية المؤيدة لإسرائيل بينما لا تظهر فعالية مشابهة على المستويين العربي والفلسطيني توازي ما تقوم به الجماعات الصهيونية. فلماذا هذا القصور العربي في مقابل التحرّك المؤيّد لإسرائيل؟
ربما تكون أهم الأسباب هي خطأ المقارنة أصلاً بين حال العرب في أميركا (أو في دول غربية اخرى) بحال اليهود الأميركيين والأوروبيين. فالواقع أنّ «العرب الأميركيين» مثلاً هم حالة جديدة في أميركا مختلفة تماماً عن الحالة اليهودية. العرب جاؤوا لأميركا كمهاجرين حديثاً من أوطان متعدّدة إلى وطن جديد، بينما اليهود في أميركا هم مواطنون أميركيون ساهموا بإقامة وطن (إسرائيل) في قلب المنطقة العربية، أي عكس الحالة العربية والإسلامية الأميركية وما تنطوي عليه من مشكلة ضعف الاندماج مع المجتمع الأميركي.
حالة العرب في أميركا مختلفة أيضا من حيث الأوضاع السياسية والاجتماعية، فكثيرٌ منهم أتوا مهاجرين لأسباب سياسية واقتصادية، وغالباً لأسباب أمنية تعيشها المنطقة العربية، ممّا يؤثّر على نوع العلاقة بين العربي في أميركا والمنطقة العربية. بينما حالة العلاقة بين اليهود الأميركيين وإسرائيل هي حالة من شارك في بناء هذه الدولة وليس المهاجر (أو المهجّر) منها.
أيضاً، ليست هناك حالة تنافس موضوعي على المجتمع الأميركي. فليست هناك مؤسّسات رسمية أو إعلامية أميركية محايدة تتنافس عليها الجالية العربية مع الجالية اليهودية، وهذا بذاته يجعل المقارنة غير عادلة.
إنّ اللوبي الإسرائيلي في أميركا يتعامل مع علاقة واحدة خاصّة هي علاقة إسرائيل بأميركا، بينما تتعامل المؤسّسات العربية–الأميركية مع علاقات عربية متشعبة ومختلفة بين أكثر من عشرين دولة عربية وبين الولايات المتحدة. فالعرب الأميركيون يتعاملون مع واقع عربي مجزّأ بينما يدافع «اللوبي الإسرائيلي» عن كيان واحد هو إسرائيل.
من ناحية أخرى، فإنّ للعرب الأميركيين مشكلة تحديد الهويّة وضعف التجربة السياسية، وهي مشكلة لا يعانيها اليهود الأميركيون. لقد جاء العرب إلى أميركا من أوطان متعدّدة ومن بلاد ما زالت الديمقراطية فيها تجربة محدودة، إضافةً إلى آثار الصراعات المحلية في بلدان عربية على مسألة الهويّة العربية المشتركة.
ومن المهمّ التمييز بين حالاتٍ ثلاث مختلفة تتّسم بها الجالية العربية في أميركا وأوروبا أيضاً: فهناك «أميركيون عرب»، وهم أبناء الجيل المهاجر الأول، و«عرب أميركيون» وهم الأجيال التالية التي لم تذب تماماً بعد، في المجتمع الأميركي، لكنها مندمجة فيه بقوّة وتشارك في العمليات الانتخابية، وهناك «عرب في الولايات المتحدة» وهؤلاء لم يصبحوا مواطنين أميركيين بعد. وبينما نجد أغلب «الأميركيين العرب» غير متواصلين مع البلاد العربية الأم، نرى أنّ الفئة الثالثة (أي المهاجرون الجدد) غير متواصلة بعمق مع المجتمع الأميركي نفسه، ولكلٍّ من هذه الفئات نظرة مختلفة للحياة الأميركية ولدورها في المجتمع، إضافةً لتعدّد الانتماءات الدينية والطائفية والإثنية في الجالية العربية. فالبعض مثلاً يندفع نحو منظمات إسلامية، وهو ما يستبعد نصف الجالية العربية، حيث أكثرية الجالية العربية في أميركا هي من جذور دينية مسيحية بينما أكثرية الجالية الإسلامية هي من غير أصول عربية. فهل المنشود «لوبي عربي» فقط أم «لوبي إسلامي» تتضاعف فيه السلبيات المشار إليها على صعيد الجالية العربية؟
إذن، كلّما كان هناك تعامل فكري عربي سليم فيما يتعلق بمسألة الهوية ستتعزّز معه إمكانات الجالية في أن تنجح عملياً وتتجاوز كثيراً من الثغرات. فالجالية العربية في أميركا (كما هي في أوروبا) تعيش محنة ارتجاج وضعف في الهُويتين العربية الأصلية وفي الهُوية المستحدثة. فالمهاجرون العرب، أينما وُجِدوا، ينتمون عملياً إلى هويتين: هوية أوطانهم العربية الأصلية ثمّ هوية الوطن الجديد الذي هاجروا إليه. وقد تفاعلت في السنوات الأخيرة، خاصّة عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، جملة تطوّرات انعكست سلبياً على الهويتين معاً. ففي الحالة الأميركية أصبح المواطن الأميركي ذو الأصول العربية موضع تشكيك في هويته الأميركية وفي مدى إخلاصه أو انتمائه للمجتمع الأميركي. وقد عانى الكثير من العرب في عدّة ولايات أميركية من هذا الشعور السلبي لدى معظم الأميركيين حيال كل ما يمتّ بصلة إلى العرب والعروبة والإسلام.
أيضاً، ترافق مع هذا التشكيك الأميركي بضعف «الهويّة الأميركية» للأميركيين ذوي الأصول العربية، تشكّك ذاتي حصل ويحصل مع المهاجرين العرب في هويّتهم الأصلية العربية، ومحاولة الاستعاضة عنها بهويّات فئوية بعضها ذو طابع طائفي ومذهبي، وبعضها الآخر إثني أو مناطقي أو في أحسن الحالات إقليمي.
وإذا كان مردّ التشكيك الأميركي بـ«الهويّة الأميركية» للمهاجرين العرب هو «الجهل»، فإنّ سبب ما يحدث من تراجع وضعف في مسألة «الهويّة العربية» على الجانب الآخر هو طغيان سمات مجتمع «الجاهلية» على معظم المنطقة العربية، وانعكاس هذا الأمر على أبنائها في الداخل وفي الخارج.
إنّ الظروف الموضوعية السلبية الملازمة لواقع حال كلٍ من الجاليتين العربية والإسلامية تقتضي أن يكون «اللوبي» المنشود هو فلسطيني الهُوية وحجر الأساس الذي يتمّ البناء عليه. وربّما المدخل السليم لهذا الأمر هو قيام «منظمة التحرير الفلسطينية» بمبادرة تأسيس «رابطة الشعب الفلسطيني» لتكون إطاراً عاماً يجمع نخب الشتات الفلسطيني في الغرب عموماً، وأميركا الشمالية خصوصاً، بشرط مسألتين: الأولى، أن يكون هدف الرابطة هو البناء التنظيمي الديمقراطي بعيداً عن التحزّب السياسي الذي يسود أوساط منظمة التحرير، ثمّ ثانياً، تشكيل «الرابطة» من خلال الدعوة في المدن الأميركية والأوروبية لمؤتمرات شعبية فلسطينية عامّة تنتخب ممثلين عنها لعضوية الرابطة. وفي مرحلةٍ لاحقة، تضع هذه «الرابطة» برنامج عملها وأولويات تحرّكها وفق الرؤى التي يتمّ الاتفاق عليها بين من يمثّلون القاعدة الشعبية الواسعة من المهاجرين الفلسطينيين.
ففي الولايات المتحدة نشطاء فلسطينيون يقومون بدور مهم في خدمة القضية الفلسطينية لكن بمبادرات فردية، خاصّةً في مجال العمل السياسي الأميركي وفي الحملات الانتخابية، وبلا قدرة على توظيف هذه المبادرات في إطار فلسطيني واسع وشامل لكل الولايات.
ووجود هذه «الرابطة» سيكون مفيداً ليس فقط للقضية الفلسطينية وللمهاجرين الفلسطينيين أنفسهم، بل أيضاً لما تريد «منظمة التحرير» التركيز عليه من قضايا سياسية في الغرب وفي الساحة الأميركية خصوصاً، وممّا يجعل هذه «الرابطة» مستقبلاً حالةً شبيهة بما تقوم به «المنظمة الصهيونية العالمية» من تنسيق بين المؤسسات اليهودية العاملة تحت مظلّتها، كما سيكون دور الأميركيين الفلسطينيين الممثلين في الرابطة مماثلاً لحالة «اللوبي الإسرائيلي» في حال جرى وضع إمكاناتٍ مادية مساندة لعملهم السياسي في أميركا الشمالية.
فالقضية الفلسطينية هي محور يلتقي حوله ومن أجله معظم العرب أينما كانوا، وهذه القضية هي أساس الصراع العربي–الصهيوني الممتد لحوالي قرنٍ من الزمن، منذ إطلاق «وعد بلفور» وخضوع البلاد العربية للهيمنة الأوروبية، ثم تأسيس دولة إسرائيل وبدء صراعها مع الدول العربية المجاورة لها.
إنّ العرب في الأوطان العربية منشغلون اليوم في همومٍ كثيرة؛ بعضها ذو عناوين سياسية محلّية ترتبط في طبيعة أنظمتهم الحاكمة، والبعض الآخر منها يدخل في دائرة الهموم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لكن بشكلٍ عام هي الآن همومٌ وطنية داخلية في صراعاتها وساحاتها، وتنعكس سلباً على معظم المهاجرين العرب، وهي مرحلةٌ مختلفة تماماً عمّا كان عليه واقع العرب قبل نصف قرن، حينما كان الصراع مع إسرائيل يوحّد اهتمامات العرب أينما وجدوا، وحيث لم يعرف ذاك الزمن التمييز على أساس الانتماءات الوطنية أو الطائفية أو الإثنية.
وسيكون الفارق كبيراً في تحرك العرب في دول الغرب لو توفّر أمامهم نموذجٌ فلسطينيٌّ رائد داخل إطاره التنظيمي، وفي برنامجه الوطني الفلسطيني الشامل. وسيجد المهاجرون العرب أنفسهم معنيّين بدعم هذا الإطار الفلسطيني المقترح ففيه ستكون، ليست سلامة المرجعية للفلسطينيين في الغرب فقط، بل أيضاً إعادة الحيوية للقضية الفلسطينية لدى كل المهاجرين العرب.
Leave a Reply