حمل شظايا الحرب لمدة 78 عاماً دون أن يعلم
زينة جعفر – «صدى الوطن»
يبدو أن الأميركي الكلداني بيتر عيسى قد حمل «تذكاراً» من الحرب العالمية الثانية على مدار 78 عاماً الماضية دون أن يعلم ذلك، فقد عثر طبيبه المعالج –في تشرين الثاني (نوفمبر) المنصرم– على شظايا رصاصة أصابت كاحله الأيسر خلال مشاركته في إنزال النورماندي الشهير، في الحرب العالمية الثانية، صيف العام 1944.
كان عيسى قد ولد في الولايات المتحدة عام 1925 لأب هاجر من العراق عام 1914 وأم عراقية انتقلت إلى العالم الجديد في 1908، وعندما بلغ الثامنة عشرة من العمر، تم تجنيد عيسى في الجيش الأميركي في خضم الحرب العالمية الثانية، ما اضطره إلى ترك أبويه وأخواته الست للالتحاق بالخدمة العسكرية.
لكن، عندما حمل البريد، رسالة لعيسى تدعوه للانضمام إلى الجيش الأميركي، لم يكن على دراية بأن المطاف سينتهي به في إحدى أشرس المعارك التاريخية التي خاضها الأميركيون خارج الولايات المتحدة.
وعلى نفس المنوال، لم تكن عائلة عيسى متيقّنة مما ستؤول إليه الأمور، حيث اختلطت لديهم مشاعر السعادة والقلق، كون ابنها الشاب سيغادر المنزل.
يقول عيسى ممازحاً: «أعتقد بأن والدي ووالدتي أرادا التخلص مني حقاً»، لا لشيء سوى لإراحة بناتهما الست من سيطرة شقيقهم الوحيد.
بعد استدعائه للمشاركة في الحرب، التحق عيسى ببرامج التدريب العسكرية مع المجندين الآخرين في قاعدة «فورت كاستر» بمدينة باتل كريك في ولاية ميشيغن حيث تدرب لمدة أسبوعين قبل أن ينتقل إلى «معسكر فان دورن» في مدينة سنترفيل بولاية ميسيسببي، الذي أمضى فيه 11 شهراً، قبل الانتقال إلى محطته التدريبية الأخيرة في «معسكر شانكس» في بلدة أورانجفيل بولاية نيويورك.
«معسكر شانكس»، كان المحطة الأخيرة للجنود الأميركيين الذين يتم إعدادهم للالتحاق بالمعارك الدائرة في أوروبا، ومنه انطلق عيسى ورفاقه على متن بارجة «لوكسمبورغ»، معتقداً بأن السفينة الحربية كانت تنقلهم إلى قاعدة تدريب جديدة، وحسب، إذ لم يكن هؤلاء العسكريون على علم بخطة «غزو النورماندي»، التي كان يتم الإعداد لها –حتى ذلك الحين– بسرية تامة.
وعند وصولهم إلى سواحل القارة العجوز، يتذكر عيسى بأن سفينة كبيرة تقدمت من الميناء نحو البارجة التي كانت تقلّهم، وهناك رأى الجنرال الأميركي دوايت أيزنهاور، قائد قوات الحلفاء، وكان في صحبته رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل.
وقال عيسى إن الزعيمين تحدثا إلى الجنود عبر مكبر الصوت حول «غزو ما»، و«عند ذلك علمنا بأن شيئاً خطيراً على وشك الوقوع».
وأضاف: «لقد عرفنا بأن أمراً ما سيحدث عندما قالا لنا: ليبارككم الله جميعاً، نتمنى لكم التوفيق.. عندها فقط أدركنا بأن شيئاً خطيراً سيحصل».
كان الحلفاء يعدّون لـ«عملية أوفر لورد»، وهو الاسم الكودي لغزو شمال غرب أوروبا في الحرب العالمية الثانية من قبل قوات الحلفاء، ومن ضمنه «إنزال النورماندي»، الذي بدأ على الشواطئ الفرنسية يوم 6 حزيران (يونيو) 1944، وكان ذلك أول أيام عيسى في الحرب التي لم يكن يعلم بأنه سيصاب فيها بالرصاص، وأنه سيحمل منها تذكاراً طوال ثمانية عقود.
ويتابع عيسى سرد ذكرياته لـ«صدى الوطن»، قائلاً: «تم إنزال الجنود إلى قوارب أصغر لنقلهم إلى شاطئ نورماندي، حيث كانت القوات الألمانية متمركزة على مسافة بعيدة» من الشاطئ، لافتاً إلى أن المحاربين غادروا المراكب وخاضوا في المياه التي كانت تغمرهم حتى أعناقهم فيما كانوا يرفعون بنادقهم عالياً فوق رؤوسهم، حتى وصلوا إلى البرّ. وتابع بالقول: «كنا في الماء حتى أعناقنا، ثم بدأنا نزحف نحو الشاطئ وعندما وصلنا أتذكر أننا زحفنا كثيراً، العدو لم يكن هناك.. لقد كان الألمان على بعد مسافة منا، وكانوا يطلقون علينا النار والقنابل وجميع القذائف الأخرى عن بُعد».
وبينما كانوا يزحفون، كان وابل النيران هو كل ما رآه الجنود الذين قاموا بحفر خنادق لحماية أنفسهم من الألمان الذين كانوا يمطرون أرض المعركة بشتى أنواع الأسلحة من حصونهم ومخابئهم.
قال عيسى: «في كل مرة كنا نسمع فيها دوي انفجار كبير، كان علينا النزول إلى الحفر، أو الانبطاح على الأرض، وكان ذلك هو الشيء الوحيد الذي يحميك. احفر خندقاً لتختبئ فيه وإلا فإنك تضع حياتك على المحك!».
وأوضح عيسي بأنه اضطر مع رفاقه إلى انتظار أوامر الاشتباك، حتى تلقوها أخيراً، لينخرطوا في جولات متتابعة من القتال الضاري على شاطئ أوماها بمنطقة النورماندي الفرنسية.
لم يكن القتال ليتوقف إذا أُصيب أحد الجنود لأن الرقيب الأول دورهام كان يطلب منهم مواصلة الهجوم.
خلال تلك الاشتباكات، أصيب عيسى برصاصة في كاحله الأيسر، ما اضطره إلى طلب المساعدة الفورية، متذكراً بأن الألم كان هائلاً لدرجة أنه جعله يظن بأنه لن ينجو من الإصابة.
وقال عيسى: «عندما أُصبت، ظننت أنني سأموت».
حمل الرقيب أول دورهام، عيسى على ظهره إلى مكان آمن، ليتم إسعافه ونقله بسيارة جيب عسكري إلى مستشفى ميداني حيث قام المسعفون بعلاجه.
أما دورهام فقد قتل في تلك المعركة بعد فترة وجيزة من إنقاذ الجندي العراقي الأصل.
يتذكر عيسى–أيضاً– أن سيارة الجيب كانت تقل معه العديد من الجرحى الآخرين، الذين كانوا يخشون من أنهم لن يتمكنوا من الوصول إلى برّ الأمان أبداً.
وقال: «لم يكن بمقدروي أن أصدق بأنني مقيد على نقالة فوق سيارة جيب، بينما كنت أرى القنابل تتساقط من كل حدب وصوب، لذلك اعتقدت بأننا سنقتل».
وبعد وصوله إلى أحد المستشفيات الميدانية، عمد المسعفون إلى استخدام الديدان لتنظيف جرحه من الجراثيم، لكن إصابته الشديدة تطلبت نقله إلى أحد المستشفيات في إنكلترا، حيث خضع لعلاج إضافي من جرحه البليغ.
كان المستشفى «يغص بالجثث والدماء التي كانت في كل مكان، وكانت كل ما يمكنك أن تراه هناك»، وفق عيسى الذي تلقت والدته برقية تخبرها بإصابة ابنها، مع وعد بإبلاغها بأية مستجدات في هذا الشأن.
بعد تطبيبه في بريطانيا، تم نقل عيسى إلى «مستشفى كريل العسكري» في مدينة كليفلاند بولاية أوهايو، حيث خضع لنحو ست عمليات جراحية، وعندما تلقى ميدالية «القلب الأرجواني» كان لايزال نزيل المستشفى، لإتمام طور النقاهة من إصابته التي أهلته للتسريح رسمياً من الجيش في عام 1945.
لقد كانت الإصابة شديدة، لدرجة أنه لم يتمكن من العودة للالتحاق بالخدمة.
وبعد تسريحه من الجيش، اتخذت حياته منحى مختلفاً عن خوض المعارك الضارية، حيث استفاد من «قانون الجنود الأميركيين»، الذي تم تصميمه لمساعدة قدامى المحاربين في الحرب العالمية الثانية على إكمال تعليمهم الجامعي أو المهني.
وبموجب ذلك القانون، انتسب عيسى إلى مدرسة مهنية لتعليم الجزارة، وبعد التخرج منها قام برحلة إلى العراق بحثاً عن عروس من الوطن الأم. وبالفعل تزوج عيسى فتاة عراقية من بغداد واستقدمها إلى الولايات المتحدة، وأنجب منها خمسة أبناء.
عيسى حصل أيضاً على ميدالية «النجمة البرونزية» تكريماً لخدمته العسكرية، وفي هذا السياق، تتذكر زوجته قدوم جنديين إلى منزلهما الكائن بمنطقة ديترويت، قائلة «لقد رحّبا به بحفاوة غامرة بمجرد أن قابلهما على الباب»، وهو ما جعلها تجهش بالبكاء من شدة التأثر.
في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، شعر عيسى بعودة الألم في كاحله المصاب، ودفعه اشتداد التورم إلى مراجعة الطبيب الذي بادر إلى تنظيف الكاحل المتقرح من القيح. وقال عيسى إنه بينما كان الجراح ينظف جرحه، بدأ في سحب شظايا من كاحله بارتباك مستغرباً وجود تلك القطع المعدنية، ليخبره على الفور بإصابته برصاصة خلال مشاركته في الحرب العالمية الثانية.
ووصف عيسى اندهاش الجراج قائلاً: «لم يكن الطبيب يصدق ما يراه».
لمدة 78 عاماً، حمل عيسى تلك الشظايا داخل جسده، ولحسن الحظ بدأ أخيراً يشعر بالراحة من الألم الذي سببته تلك الرصاصة التي تلقاها في الحرب العالمية الثانية.
Leave a Reply