عانى العراق والعراقيون وعلى مدى العقود الثلاثة الأخيرة من ويلات الحروب والحصار الاقتصادي والاحتلال الأجنبي وفوضى ومخاطر الحرب الطائفية والعرقية. لكن اخطر ما تعرض له العراق إلى جانب الخسارة البشرية هو الخسارة العلمية حيث أن اغلب الطاقات العلمية والفنية بدأت بالتسرب والفرار من العراق بدءاً مع التوتر السياسي الداخلي وسياسة عدم التحمل -أو الحزب الواحد- التي سادت في الثمانينات من القرن الماضي. ثم تلي ذلك رعب الحرب العراقية-الإيرانية وما صاحبها من دمار واستنزاف بشري وعلمي واقتصادي ساهم في هجرة الأدمغة العراقية إلى خارج البلد طلبا للأمان والمناخ العلمي الأكثر ملائمة.
وشهدت بداية التسعينات كارثة جديدة تمثلت في احتلال العراق للكويت وما تبعه من تدمير عسكري للمفاصل البنيوية العراقية بقصف جوي استمر لأكثر من ستة أسابيع بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. تبع تلك الكارثة هول جديد تمثل بحصار اقتصادي، استمر لثلاثة عشر سنة، شل مفاصل الحياة في أنحاء المجتمع العراقي وأثر بشكل واضح على النواحي العلمية والتعليمية والصحية والفنية.
كانت هذه الأحداث التراكمية بمثابة الضربات المتتالية والموجعة والمدمرة للبناء العلمي والتعليمي والصحي والفني في أنحاء العراق وساهمت بدورها في دفع عملية تسريب الأدمغة العراقية وخسارتها. ثم كانت الضربة الأقوى مع بداية الاحتلال الأميركي عام ٢٠٠٣ وشيوع الفوضى وانعدام الأمن والقانون.
وخلال السنوات الأولى من الاحتلال شهد العراق كارثة ألحقت الدمار بتراثه وذاكرته الحضارية صاحبتها موجة شرسة من اختطاف وتصفية واغتيال العلماء وذوي الكفاءات والخبراء في كافة الاختصاصات لا يزال صداها يتردد في أنحاء العراق ولا تعرف مصادر فاعليها بشكل أكيد. دفعت تلك الأحداث ولا زالت الكثير من أصحاب الكفاءات العراقيين إلى مغادرة العراق والنجاة بحياتهم. ورغم تراوح الأوضاع الأمنية بين استقرار وعدمه فان الشعور بعدم الأمان لا يزال يلازم الكثير من ذوي الكفاءات ممن تحدوا الصعوبات وبقوا في العراق رغم الظروف المتردية.
وبشكل عام فان الوضع العلمي والتعليمي والصحي في العراق لازال يعاني من تراكمات الثلاثين سنة الأخيرة وهناك حاجة ماسة إلى تحديث وتطوير تلك الجوانب المهمة لمواصلة بناء الهيكل العام للبلد بغية إعادته إلى مساره الصحيح.
من هذه النقطة بالذات يأتي دور الدكتور عبد الهادي الخليلي، المستشار الثقافي العراقي في واشنطن، في مبادرة تبدو لأول وهلة وكأنها مغامرة غير مجدية لكن جده واجتهاده ومواصلته الشخصية وثبات عزيمته زرعت شروط النجاح لها. يطمح الدكتور الخليلي إلى ربط الكفاءات العراقية في المهجر الأميركي بزملائهم في الوطن الأم والتنسيق لوضع خطة مستمرة تهدف إلى تنشيط وتطوير وتأهيل المفاصل العلمية المختلفة في العراق لرفع درجة أدائها للمستوى المطلوب. ويعمل الدكتور الخليلي بمبادرة شخصية وبميزانية متواضعة لإنجاح مشروعة الطموح معتمدا على الروابط الإنسانية والتعاطف المهني الموجود أصلا في شخصيات أبناء الجالية العراقية من ذوي الكفاءات في المهجر الأميركي. وهكذا تضافرت جهود الطاقات العراقية المتميزة ولبت نداء الدكتور الخليلي لحضور المؤتمر الأول للأكاديميين العراقيين في الولايات المتحدة المنعقد في آذار (مارس) الماضي في القاعة الكبرى في بناية الأكاديميات الوطنية الأميركية للعلوم في واشنطن والذي يطمح ويعمل الدكتور الخليلي على تثبيته كتقليد سنوي مستمر. وقد تشكلت في ذلك المؤتمر حلقات دراسية وجلسات على مدى يومين نوقشت خلالها محاور مهمة في مختلف الاختصاصات في مجال التعليم العالي والبحث العلمي وشارك فيها نخبة من المختصين.
وكانت أهداف جلسات المؤتمر هي وضع خطة لأسلوب المساهمة في رفع شأن التعليم العالي في العراق بالاستفادة من خبرة الكفاءات العراقية المتميزة في المهجر. وقد شارك وفد عراقي برئاسة وزير التعليم العالي والبحث العلمي كما شارك العديد من أصحاب الكفاءات في الولايات المختلفة.
تقررفي المؤتمر أن تمنح جائزة ”وادي الرافدين” المتميزين الخمسة على مستوى الولايات وهم الدكتور عبدالمسيح اسكندريان في الطب والدكتور صالح الوكيل في العلوم والدكتور مثنى الدهان في الهندسة والدكتور محسن الموسوي في الآداب وزينب سلبي في الثقافة. ومنحت جائزة ”التميّز” في الآداب لكل من الدكتور عبدالاله الصائغ والدكتور صالح الطعمة والدكتور فؤاد البعلي والدكتورة هند رسام والدكتور أحمد فرهادي، والفائزون في الطب؛ الدكتور حامد المنذري والدكتور سعد شاكر والدكتور جورج أبونا والدكتور صبري شكر والدكتور صلاح العسكري، وفي العلوم؛ الدكتور زهير منير والدكتور محمد الشيخلي والدكتور أسعد خيلاني والدكتور عبدو العياش والدكتور نوري بركة، وفي الهندسة؛ الدكتور هاشم حمزاوي والدكتور هاني حيدر والدكتور حسين بهية والدكتور أحمد القيسي والدكتور مهند باقر، وفي الثقافة؛ الدكتور حسام فضلي والدكتور هاشم الطويل والسيد فؤاد ميشو.
كذلك تم تكريم ٤٠ من المعمرين من الأكاديميين والمهنيين العراقيين الذين بلغوا الثمانين من العمر أو اجتازوا ذلك وفاء لما قدموه في خدمة اختصاصاتهم في العراق والولايات المتحدة عبر سني حياتهم العامرة بالإنجازات وعرفان بجهودهم وتواصلا مع الوطن. والمكرمون هم:
أحمد شلال، أسعد الخيلاني، بدري الجلبي، بهنام أبو الصوف، ،حميد تاج الدين، حسن صالح،حسن طه النجم، حكمت فكرت، حسين طعمة، جعفر الحسني، جلال الصالحي، خالدة قصير، خلدون ابراهيم حلمي، فائق إبراهيم، فرحان باقر، فؤاد ميشو، رسول صادق، رضا العطار، سامي قصير، سلمان الكيلاني، صاحب ذهب، صالح جواد الطعمة، صلاح العسكري، صالح الوكيل، طه ناجي، طليع مكي، طالب الاسترابادي، عبد الصاحب هاشم، عدنان شاكر، لطيفة القفطان، مجيد السكافي، مجيد حسين، مليحة رحمة الله، مي قفطان، محمد أبو طبيخ، محمد علي خليل، هاشم حمزاوي، هشام منير، واصل الظاهر،و وديع حمندي.
وبجانب فعاليات المؤتمر أقامت جامعة شيكاغو معرضا لصور الآثار العراقية و المنهوب منها خاصة. كما أقيم معرض للكتاب العراقي والعربي بمناسبة المؤتمر.
وفي ختام المؤتمر ألقى المستشار الثقافي الدكتور الخليلي كلمة الختام ركز فيها على نقطتين أساسيتين: أولا، أن الهدف الذي تحقق من المؤتمر هو جمع شمل الطاقات العراقية المتنوعة واللقاء الأخوي الوطني والفخر بما حققه الكثير منهم وتوحيد الكلمة في المسعى لخدمة العراق والتعليم العالي فيه. والنقطة الثانية هي طرح مشروع استحداث هيئة استشارية تساعد المستشار الثقافي في التخطيط إلى جمع الكفاءات حسب الاختصاص في عموم الولايات المتحدة وتنظيمها بأسلوب يمكن استثمار طاقاتها في دعم الكفاءات المماثلة وتطوير التعليم العالي في العراق بصورة عامة.
جدير بالذكر أن الدكتور الخليلي أنجز العديد من النشاطات خلال السنوات القليلة الماضية. فقد نسق وأقام ندوات للمتحف العراقي في جامعة جورج واشنطن وحفل تأبين الشاعرة العراقية نازك الملائكة في جامعة جورج تاون في واشنطن، وحفل تكريم الشاعرة لميعة عباس عمارة في سان دييغو (في ولاية كاليفورنيا) وحفل تأبين بوفاة الفنانة العراقية عازفة البيانو بياتريس أوهانسيان في مؤسسة السمثسونيان واحتفالية بمناسبة فوز الفريق العراقي لكرة القدم بكاس آسيا.
كما عمل د. الخليلي على توفير قاعة عمليات جراحية متنقلة بكلفة ٢,٥ مليون دولار وإرسالها للعراق وكذلك ساهم في إرسال ٤٠٠ ألف كتاب دراسي للجامعات العراقية.
وحول آفاق النشاط المستقبلي لمكتب المستشار الثقافي العراقي في واشنطن يطمح ويخطط الدكتور عبد الهادي الخليلي إلى إكمال هدف المؤتمر في تشكيل اللجان العلمية والفنية المتخصصة من ذوي الكفاءات العراقيين الأمريكيين للتواصل مع نظرائهم في الوطن. كما يعمل على تثبيت إقامة المؤتمر سنويا وتوفير حوافز المشاركة للطاقات العراقية الأميركية في المهجر.
Leave a Reply