صبحي غندور
على الرغم من التّحديات والمخاطر الكبرى التي تتعرّض لها الأوطان العربيّة متفرّقةً أو مجتمعة، فإنَّ الإجابة عن سؤال: «كيف يمكن تغيير هذا الواقع السيء» ما زالت متعثّرةً على المستويين الوطني الداخلي، والعربي العام المشترك.
ربّما المشكلة أيضاً فـي السؤال نفسه، وليست فقط بالإجابة عنه. فسؤال: «ما العمل»، داخل الوطن أو الأمّة، يقتضي أولاً الاتفاق على فهمٍ مشترك للمشكلة والواقع، ومن ثمّ تحديد الهدف المراد الوصول إليه، والوسائل المناسبة لتحقيق هذا الهدف.
المشكلة الآن على المستويين الداخلي والعربي العام هي فـي غياب الرؤية المشتركة للواقع، وللأهداف التي تنبثق منها برامج «العمل» ومراحله التنفـيذيّة.
أيضاً، هذا السؤال يتطلّب معرفة من هم المعنيّون بتحقيق «التغيير المنشود» وبتنفـيذ بـ«رامج العمل»، والذين يُطلق عليهم تسمية «الطليعة» أو القيادات المثقّفة الملتزمة..؟
فهل هناك إجابات واضحة عن هذه القضايا كلّها!؟.
يرافق هذا الحال من الغموض والتشتّت العربي فـي تحديد الواقع والأهداف والوسائل، رؤى خاطئة عن «المثقّفـين العرب» من حيث تعريفهم أو تحديد دورهم. فهذه الرؤى تفترض أنّ «المثقّفـين العرب» هم جماعة واحدة ذات رؤية موحّدة، بينما هم فـي حقيقة الأمر جماعات متعدّدة برؤى فكرية وسياسية مختلفة، قد تبلغ أحياناً حدّ التعارض والتناقض. وتوزيع دور هذه الجماعات لا يصحّ على أساسٍ جغرافـي أو إقليمي، فالتنّوع حاصلٌ على معايير فكرية وسياسية.
صحيحٌ أنّ «المثقّفـين» هم الجهة المعنيّة بالرّد على سؤال: «ما العمل الآن»، وما يسبقه من أسئلة تمهيدية تحقّق جدارة طرحه، لكن الانطلاق من فرضيّة أنّهم كتلة عربية واحدة تعيش واقعاً واحداً وتحمل فكراً مشتركاً، هي فرضية خاطئة وتزيد من مشاعر الإحباط والعجز.
إنّ «المثقّف» هو وصفٌ لحالة فرديّة وليس تعبيراً عن جماعة مشتركة فـي الأهداف أو العمل. قد يكون «المثقّف» منتمياً لتيّار فكري أو سياسي يناقض من هو مثقّف فـي الموقع المضاد لهذا التيّار، وكلاهما يحملان صفة «المثقّف»!. ومن الأخطاء الشائعة أيضاً، تعريف المثقّف بأنَّه «المتعلّم» أو من حملة لقب «الدكتور»، أو بأنَّه «المعارض» أو «الثائر» إلخ، بينما حقيقة الأمر أنَّ «المثقّف» ليس هو الباحث أو الكاتب أو المتعلّم فقط، وليس الرجل فقط دون المرأة، وليس هو دائماً فـي موقع الرافض أو المعارض أو «الوطني».
لذلك، من المهمّ الفرز والتمييز بين «المثقّفـين العرب»، فبعضهم مسؤول عن حال الانحطاط الفكري والعملي الذي تعيشه الأوطان العربية، وبعضهم الآخر يلتزم بقضايا وطنه أو أمّته. أي هذا «البعض» هو الطليعة التي قد تنتمي إلى أي فئة أو طبقة من المجتمع، لكنّها تحاول الارتقاء بالمجتمع ككل إلى وضعٍ أفضل ممّا هو عليه. وهناك عددٌ لا بأس به من المثقّفـين فـي المنطقة العربيّة الذين يرفضون الاعتراف بالانتماء إلى هويّة عربيّة، بل هم يساهمون فـي إشعال الفتن الطائفـية والمذهبية من خلال التنظير والتحليل لما يحدث فـي الأوطان والأمّة من منطلقات فئوية، وهؤلاء تجوز تسميتهم بـ«المثقّفـين العرب» وإن كانوا لا يعتقدون أصلاً بالعروبة الجامعة ويناهضونها فكراً وعملاً! فمن الأجدى دائماً وضع تعريف فكري وسياسي يُميّز بين «مثقّف» وآخر، وليس التعميم بسبب الانتماء لوطنٍ واحد فقط.
إذن، إنَّ سؤال: «ما العمل الآن؟» على المستوى العربي المشترك، يتطلّب للإجابة عنه وجود مثقّفـين عرب يعتقدون أولاً بمفاهيم فكريّة مشتركة حول الانتماء والهويّة، وحول توصيف الواقع وأسباب مشاكله، ثمَّ سعيهم لوضع رؤية فكريّة مشتركة لمستقبل عربي أفضل. عند ذلك يمكن لهذه الفئة من «المثقّفـين العرب» أن تضع الإجابة السليمة عن سؤال: «ما العمل الآن لتغيير الواقع العربي السيء؟».
إذن، المشكلة هي فـي فئة «المثقّفـين» المعتقدين فعلاً بالهويّة العربيّة، والرافضين فكريّاً وعمليّاً للفصل بين أهداف تحتاجها الأمّة العربيّة كلّها، كالتلازم بين العروبة وقضايا التحرّر والديمقراطية والعدالة. المشكلة هي أيضاً فـي غياب التنسيق والعمل المشترك بين من هم فكريّاً فـي موقع واحد، لكنّهم عمليّاً وحركيّاً فـي شتات بل فـي تنافسٍ أحياناً!.
ولأنّ الحركة السليمة هي تلك التي تنبع من فكرٍ سليم… ولأنّ الفكر السليم هو الذي يستلهم نفسه من الواقع ليكون حلّاً لمشاكله، فإنّ سؤال: «ما العمل الآن؟» لبناء نهضة عربية شاملة يتطلّب النهوض أولاً بدور المفكّرين والمثقّفـين العرب الذين يعتقدون بالانتماء للعروبة الحضاريّة.
ومن المهمّ القول إنّ النهضة العربيّة المنشودة تعني القناعة بوجود هويّة عربيّة حضاريّة مشتركة بين البلاد العربيّة، وبعلاقة خاصّة بين الثقافة العربية ومضمونها الحضاري الإسلامي، وبأنّ تحقيق النهضة يتوجّب الضغط على كل المستويات الرسميّة العربيّة من أجل تحقيق التكامل العربي، والسير فـي خطوات الاتحاد التدريجي بين الدول العربيّة، وبأن الوصول للنهضة يتطلّب التشجيع على الحياة الديمقراطيّة السليمة فـي كلّ البلاد العربيّة. كما تتطلّب الديمقراطية التمييز بين أهمّية دور الدين فـي المجتمع والحياة العامّة وبين عدم زجّه فـي اختيار الحكومات والحاكمين وأعمال الدولة وسلطاتها التشريعيّة والتنفـيذيّة والقضائيّة.
أيضاً، فإنّ النهضة العربيّة المنشودة تعني انتقالاً من حال التخلّف والجهل والأمّية إلى بناء مجتمع العدل وتكافؤ الفرص والتقدّم العلمي. مجتمع تشارك فـيه المرأة العربيّة بشكلٍ فعّال فـي مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعيّة والثقافـيّة.
كما إنّ الدعوة للنهضة العربيّة والوصول إليها يفرضان الالتزام برفض أسلوب العنف وباختيار نهج الدعوة السلميّة والوسائل الديمقراطيّة لتحقيقها، مع تأكيد الحقّ المشروع فـي مقاومة الاحتلال على الأرض المحتلّة فقط. وحينما يتّفق عددٌ من «المثقّفـين العرب» على هذه القضايا والمفاهيم فإنّ سؤال: ما العمل الآن؟ يصبح مدخلاً عملياً لتغيير الواقع العربي ولمشروع نهضة عربية شاملة.
لكن فـي كل عمليّة تغيير هناك ركائز ثلاث متلازمة من المهمّ تحديدها أولاً، هي: المنطلق، الأسلوب، والغاية. فلا يمكن لأيِّ غاية أو هدف أن يتحقّقا بمعزل عن هذا التّلازم بين الركائز الثلاث. أي أنّ الغاية الوطنيّة أو القوميّة لا تتحقّق إذا كان المنطلق لها، أو الأسلوب المعتمد من أجلها، هو إقليمي، طائفـي، مذهبي، أو فئوي بشكل عام.
ولعلّ فـي تحديد (المنطلقات والغايات والأساليب) تكون البداية السليمة لدور أكثر إيجابيّة وفعاليّة لـ«المثقف العربي الملتزم بقضايا أمّته»، فـيكون هو طليعة العمل والحركة لخدمة الأهداف المنشودة.
إنّ المفاهيم المتداولة الآن فـي المجتمعات العربيّة هي التي تصنع فكر الجيل الجديد وهي التي ترشد حركته. لذلك نرى الشّباب العربي يتمزّق بين تطرّف فـي السلبيّة واللامبالاة، وبين تطرّف فـي أطر فئويّة بأشكال طائفـيّة أو مذهبيّة استباح بعضها العنف بأقصى معانيه وأشكاله. فالمشكلة فـي الواقع العربي الرّاهن هي أنّ معظم «الجيل القديم» يحمل أفكاراً مليئة بالشوائب والحالات المرَضيّة الذهنيّة الموروثة، التي كانت فـي السابق مسؤولةً عن تدهور أوضاع المجتمعات العربيّة وتراكم التّخلّف السياسي والاجتماعي والثقافـي فـي مؤسّساتها المختلفة. والمحصّلة هي هذا الواقع السيء الذي يعيشه العرب اليوم فـي الفكر والأساليب معاً، فـي الحكومات وفـي المعارضات، فـي الواقع وفـي البدائل المطروحة له.
أيضاً، فإنّ الأمم والمجتمعات تتقدّم وتتطوّر حضارياً بمقدار ما يرتبط الشأن العام فـيها بضوابط أخلاقية تقوم على مجموعة من القيم التي تعدّ القيادات الصالحة لإدارة أمور الناس. ومن دون هذه القيم الأخلاقية لا يمكن تحقيق التفاعل الإيجابي بين اصحاب الرؤى المشتركة من «المثقّفـين العرب» كما لا يمكن صيانة العمل العام فـي أي موقع رسمي أو مدني من مزالق المصالح الشخصية. فبناء الجيل العربي الجديد، والمستقبل العربي الأفضل، يتطلّب أولاً وأخيراً الالتزام بالضابط الخُلُقي فـي كل شأنٍ عام.
عسى أن يكون الأمل بجيل عربي جديد يُجسّد دور «المثقف الملتزم» الذي يحرص على هويّته الثقافـيّة العربيّة وعلى مضمونها الحضاري، وينطلق من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطائفـي أو المذهبي أو الأصول الإثنية، وتستهدف الوصول -بأساليب ديمقراطيّة لا عنفـيّة- إلى «اتّحاد عربي ديمقراطي» متحرّر من التدخّل الأجنبي، وتتساوى فـيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى فـي كلٍّ منها حقوق المواطنين.
Leave a Reply