صبحي غندور
لم أزل أذكر ما شاهدته منذ عقدٍ من الزمن على محطة «سي أن أن» الأميركية من تفاصيل شهادة كونداليسا رايس (التي كانت تشغل آنذاك منصب مستشارة الرئيس جورج بوش الابن لشؤون الأمن القومي) أمام لجنة من أعضاء الكونغرس الأميركي كانت تحقّق فـي أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث واجه أحدهم المستشارة رايس بتقرير مطبوع مرسل من وكالة المخابرات الأميركية إلى الرئيس بوش فـي شهر آب (أغسطس) 2001، أي قبل شهر تقريباً من وقوع الهجمات فـي أميركا. وكان عنوان التقرير: «القاعدة تهيء لهجوم على نيويورك وواشنطن». وقد كان ذلك موقفاً محرجاً جداً للمستشارة رايس، والتي ارتبكت فـي الإجابة عن السؤال الموجّه لها عن سبب عدم أخذ الاجراءات الأمنية اللازمة لمنع حدوث الهجمات.
طبعاً، كانت إدارة جورج بوش الابن مسيّرة من قبل مجموعة من «المحافظين الجدد»، وفـي مقدّمتهم نائب الرئيس ريتشارد تشيني، والذين كانوا يبحثون عن أعذار أمنية لتنفـيذ أجندة سياسية داخلية وخارجية، من ضمنها غزو العراق وتغيير خريطة «الشرق الأوسط»، وبما يتناسب مع سياسة الحليف الإسرائيلي الأبرز لهم حينها، بنيامين نتنياهو.
كانت إدارة جورج بوش الابن هي الحاضنة والمنفّذة لكلّ السياسات التي وضعها، فـي أواسط التسعينات، جملةٌ من «المحافظين الجدد» فـي الولايات المتحدة، بالتنسيق مع معاهد وشخصيات معروفة بعلاقتها الوطيدة بإسرائيل، بل كان لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو دورٌ مباشر فـيها آنذاك من خلال ما يُعرف باسم وثيقة «الانفصال عن الماضي» إستراتيجية جديدة لتأمين الأمن» التي صاغها فـي العام 1996 ثمانية من كبار «المحافظين الجدد» والذين حاز بعضهم على مسؤوليات كبيرة فـي الإدارة الجمهورية السابقة، وكان لهم القرار فـي الحرب على العراق وفـي إطلاق مقولة «الحرب على الإرهاب» فـي العالم الإسلامي.
أتذكّر الآن هذه التفاصيل عن مرحلة سابقة عاشتها الولايات المتحدة والعالم قبل 13 عاماً حيث كانت «الحرب الأميركية على الإرهاب» آنذاك مقدّمة لغزو أفغانستان، ثمّ للحرب الإسرائيلية التي قادها شارون فـي العام 2002 على منظمة التحرير الفلسطينية ومقر قيادتها فـي رام الله، ثمّ احتلال العراق فـي العام 2003، ثمّ اغتيال رفـيق الحريري فـي لبنان واخراج القوات السورية منه فـي العام 2005، ثمّ الحرب الإسرائيلية على المقاومة فـي لبنان وغزّة فـي العام 2006.. وهي كلّها تداعيات لما بعد أحداث سبتمبر 2001 وللحرب على «نجم الإرهاب» حينها: جماعات «القاعدة».
الآن، إدارة أوباما بدأت تهيء العالم لحربٍ جديدة على اسمٍ إرهابي جديد «داعش»، لكنّه نسخة «طبق الأصل» عن أصله «القاعدي» فكراً وممارسةً، بل أشدّ إجراماً فـي الأساليب وأكثر نفاقاً باستخدام التسميات الدينية الإسلامية. فهل أميركا والعالم والمنطقة العربية أمام أيضاً «نسخة طبق الأصل» عن مشاريع الإدارة السابقة وأجنداتها الداخلية الخارجية؟!.
أعتقد أنّنا أمام حالة معاكسة تماماً، وإن كان المشترك بين المرحلتين (2001 و2014)، هو منهج توظيف ما يحدث لصالح هدف إبقاء الهيمنة الأميركية فـي العالم. فصحيح أنّ ما قامت به إدارة جورج بوش الابن قد أضّر كثيراً بالمصالح والثروات الأميركية، لكن مبرّره «الإستراتيجي» كان الإبقاء على القيادة الأميركية للعالم، بل جعل الأرض كلّها ملحقات أمنية وسياسية للإمبراطورية الأميركية. وطبعاً احتاج هذا الهدف لدى واضعيه، الهيمنة أولاً على كل المنطقة العربية وعلى كل الثروات النفطية فـيها، وعلى التواجد العسكري القوي على أرضها، فهذه المنطقة هي قلب العالم الإسلامي وفـيها مصدر الطاقة لدول كبرى فـي آسيا وأوروبا، وهي تربط القارات القديمة الثلاث (إفريقيا وآسيا وأوروبا)، وعلى أرضها جذور الحضارات الإنسانية وكل المقدّسات الدينية.
لقد خدمت الإدارة البوشية السابقة فـي سياساتها حليفها الإسرائيلي بالنسبة نفسها التي أضرّت فـيها بالمصالح الأميركية، كما أوصلت الولايات المتحدة إلى حافة الانهيار الاقتصادي ممّا دفع الأميركيين إلى إسقاطها مرّتين: الأولى بالانتخابات «النصفـية» فـي العام 2006 حيث وصلت غالبيةٌ «ديمقراطية» إلى مجلسي الكونغرس، وصدرت آنذاك وثيقة «بيكر – هاملتون» التي تبنّاها لاحقاً باراك أوباما، ثمّ المرّة الثانية بالانتخابات الرئاسية فـي العام 2008 حينما فاز أوباما بمنصب الرئاسة، والذي كانت حملته الانتخابية تقوم على مناهضة سياسات الإدارة السابقة وخاصّةً حروبها الخارجية. فهل يعقل أن يكرّر الرئيس أوباما سياسةً كانت مدانة أميركياً وعالمياً.. وشخصياً منه؟!
وماذا لو صحّ هذا «السيناريو» الآن: أجهزة المخابرات الأميركية، (تماماً كما حدث فـي صيف العام 2001)، أبلغت «البيت الأبيض»، منذ مطلع العام الجاري، بوجود نموّ متصاعد لجماعات «داعش» على الأراضي السورية والعراقية، وبتقدّم عسكري لهذه الجماعات وبقرب اجتياحها لمناطق واسعة فـي العراق، لكن «البيت الأبيض»، وبعد جلسات طويلة مع عددٍ محدود من الأشخاص، بينهم وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع تشاك هيغل، قرّر تأجيل أي ردّة فعل أميركية على هذه المعلومات، من أجل توظيف أفعال هذه الجماعات الإرهابية لصالح أجندة سياسية تريدها إدارة أوباما فـي السنتين الباقيتين من عهدها. وهي أجندة معاكسة لما كانت عليه أجندة إدارة بوش من حيث الأساليب، لكنّها تطمح حتماً إلى تكريس ما قاله أوباما مؤخّراً عن ضرورة أن يكون القرن الحالي قرناً أميركياً أيضاً، كما كان القرن الماضي.
وفـي هذا «السيناريو»، فإنّ أجندة أوباما الخارجية تريد تحقيق تسويات سياسية لأزمات مشتعلة الآن، وليس البدء بحروب جديدة كما فعلت الإدارة السابقة. تريد تحسين العلاقات مع إيران، لا إشعال حربٍ معها كما كان – وما يزال – يسعى لذلك نتنياهو وبعض «الجمهوريين» فـي الكونغرس. تريد الإنسحاب من أفغانستان مع حفظ التأثير الأميركي فـي هذا البلد والتحكّم بمساره السياسي، حتى لو اقتضى ذلك مستقبلاً صفقة مع حركة «طالبان» التي لم تكن بعيدة فـي نشأتها عن هذا «التأثير» الأميركي. وتريد هذه «الأجندة الأوبامية» حلاً سياسياً الآن للأزمة الدموية السورية، بعدما فشلت المراهنات على تغيير الحكم فـي دمشق من خلال بعض جماعات المعارضة المدعومة من واشنطن، والتي تقلّصت لصالح جماعات «النصرة» و«داعش» المصنّفة أميركياً بأنّها جماعات إرهابية، وحيث لا يمكن من دون البدء بحلٍّ سياسي للأزمة السورية تحقيق الاستقرار فـي لبنان وانتخاب رئيس جديد فـيه، ولا أيضاً توفّر المناخ السياسي والأمني المرجو أميركياً للعراق، أو لتحقيق التقدّم فـي المفاوضات مع إيران.
أيضاً، أجندة أوباما الخارجية لم تتخلَّ بعد عن هدف إقامة «دولة فلسطينية»، وهي تريد تحقيق هذا الهدف قبل نهاية العام 2016 وربّما من خلال الدعوة لمؤتمر دولي شبيه بمؤتمر مدريد فـي العام 1991، وهذا يتطلّب تنسيقاً مع موسكو وطهران لضمان نجاح نتائجه، حيث من الممكن جعل المؤتمر شاملاً لكلّ عناصر وجبهات الصراع العربي- الإسرائيلي وتوقيع معاهدات على الجبهتين السورية واللبنانية، وتطبيق ما يُعرف باسم «المبادرة العربية»، ممّا يؤكّد الحاجة إلى تفاهمات مع موسكو وطهران ووضع تسوية سياسية للحرب الدائرة حالياً بأشكال مختلفة فـي سوريا.
وحتّى تتحقّق هذه «الأجندة الأوبامية»، فإنّ من المهم وجود «عدوّ مشترك» يجمع القوى المتناقضة إقليمياً ودولياً وفـي المنطقة العربية، ويبرّر الكثير من الاتصالات والعلاقات مع «خصوم» الأمس، والحاجة لدعمهم فـي حربٍ أميركية مفتوحة أيضاً زمنياً (كما كانت حرب الإدارة السابقة)، لكنّها ستكون حرباً محصورةً جداً مكانياً، وعلى إرهابٍ هو فعلاً مصدر أخطار كبيرة على أمم وأوطان وشعوب، كما هو على مصالح دول وحكومات.
لقد كانت حرب إدارة بوش على الإرهاب مقدّمة لتصدّع أوطان وبـ«فوضى خلاّقة» عانت وتعاني منها الكثير من البلدان العربية، ولم تتراجع إدارة أوباما عنها كثيراً فـي السنوات الماضية. فعسى أن تكون هذه «الحرب الجديدة» على الإرهاب مقدّمة لتصحيح مساراتٍ خاطئة فـي السياسة الأميركية، وعسى أيضاً أن تستفـيد شعوب المنطقة وحكّامها من هذه الفرصة لإعادة وحدة نسيجها الوطني، ولوقف حروبها وصراعاتها الأهلية التي خدمت «أجندات» ومشاريع إقليمية ودولية، ليس أيٌّ منها عربياً أو إسلامياً.
وإذا صحّ هذا «السيناريو»، فإن الرئيس أوباما سيستحق فـي ختام فترة ولايته الثانية ما حصل عليه قبل قيامه بأي انجاز فـي بداية عهده بـ«البيت الأبيض» من «جائزة نوبل» للسلام!.
Leave a Reply