صبحي غندور
انشغل «المعارضون» العرب فـي مرحلةٍ ما، قبل تفجّر الانتفاضات الشعبية فـي العام 2011، بطروحات فكرية وسياسية متضاربة، حاولت تشخيص العلّة فـي المجتمعات العربية، فلم تجد لها من دواء إلا ما هو معروضٌ فـي السوق العالمي من أفكارٍ ونظريات!.
فهناك من حدّد المشكلة العربية حصراً فـي غياب المجتمع العلماني المدني، ورأى البعض الآخر سببها فـي الابتعاد عن الدين وأحكامه وشريعته!. وقد تعامل البعض مع الأمراض الكامنة فـي الجسم العربي وكأنّ مصدرها علّة واحدة.. قد تكمن فـي اضطهاد المرأة العربية أو فـي غياب الديمقراطية، بحيث أنّ علاج هذه المشكلة وحدها أو تلك يشكّل – بنظر هذا البعض – الأساس لعلاج كلّ أمراض المجتمع العربي!.
أيضاً، نجد أنّ البعض نظر إلى البلاد العربية كأمَّةٍ واحدة، فأعاد أسباب تخلّفها ومصائب شعوبها المتعدّدة إلى غياب الوحدة السياسية بين العرب.. بينما رأى البعض الآخر صيغة الكيانات العربية القائمة بمثابة السقف الأعلى الذي لا يجب تجاوزه حاضراً ومستقبلاً..! وبين هذا الطرح «الوحدوي العربي».. وذاك الطرح «الوطني الإقليمي»، دخلت جماعات «العولمة» التي تنظر لمشاكل العالم كلّه – ومنه عالم العرب – بمنظارٍ اقتصاديٍّ بحت، لا يعترف بهويّة ثقافـية، ولا بخصائص حضارية مميّزة، ولا يميّز بين عدوٍّ محتل وبين شعبٍ شقيق، إلا بمعيار المصلحة الاقتصادية!.
ورغم هذه التباينات الفكرية الواسعة التي عاصرها العرب، لم يختلف اثنان فـي البلاد العربية على أهمّية الإصلاح السياسي والاجتماعي.. لكن الخلاف كان دائماً على الوسائل والكيفـيّات، عِلماً أنّ الإصلاح الشامل المطلوب يحتاج إلى عملية تراكمية وتكاملية على المدى الطويل، لا إلى عملية انقلابية ضدّ حكوماتٍ فقط، ووسيلته الناجعة هي الدعوة السلمية والإقناع الحر وليس بقوّة العنف المسلّح التي تشرذم الأوطان، والتي قد تصل بها أحياناً إلى الحروب الأهلية.
أيضاً، صحيحٌ أنّ «الديمقراطية» و«العدالة الاجتماعية» هما مطلبان مهمان «داخل المجتمعات العربية»، لكن ذلك يتحقّق حينما يكون هذا «الداخل» متحرّراً من الاحتلال أو من سيطرة «الخارج». أمّا عندما يخضع شعبٌ ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق «الديمقراطية» أو «العدالة الاجتماعية»، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتلّ أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر.
أمّا عن العامل الديني الفاعل فـي الحياة العربية، فهو عنصرٌ هام لبناء الأساس الأخلاقي والقيمي لأيّة حركة إصلاح عربية.. لكنّه يحتاج إلى تأصيل وإلى تمييز عن الجماعات التي تدّعي الوصل بالدين بينما تتناقض أفكارها وممارساتها مع جوهر كل الرسالات السماوية، بل هي أيضاً مسؤولة عن الانقسامات الطائفـية والمذهبية التي جعلت «العدوّ» هو «الآخر» من الطائفة الأخرى، بدلاً من مواجهة المسؤول فعلاً عن سوء الواقع وفساده.
إنّ حركات المعارضة تحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف وليس لمصالحها الخاصّة .. فهل هذه العناصر كلّها متوفّرة فـي الحركات السياسية العربية المعارضة اليوم؟.
إنّ الواقع العربي الراهن تختلط فـيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساسٌ مهم فـي الحركة والتنظيم والأساليب، كما هي فـي الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من «الآخر» بمختلف أنواعه داخل المجتمع، وما هو الفاصل بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب المرفوض، وما هي العلاقة بين حرّية الوطن وحرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية والحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي فـي كلّ بلد؟ وهل يمكن القبول بديمقراطية تمرّ فـي تدخّل عسكري أجنبي وفـي تجزئة الكيانات الوطنية وإخضاعها للسيطرة الأجنبية؟.
ثمّ ما هي آفاق هذا التغيير المنشود الذي تسعى إليه المعارضات العربية من حيث مسألة الموقف من إسرائيل، وهل ستكون «الشرق أوسطية» هي الإطار الجامع لدول المنطقة، أم ستكون هناك خطوات جدّية مستقبلية نحو تكاملٍ عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة، ويبني أسس الاتّحاد السليم بين الدول العربية؟.
هذه تساؤلاتٌ مهمّة وتستدعي وقفةً مع النفس العربية عموماً، والإسلامية منها خصوصاً، للتساؤل عمّا حدث ويحدث فـي المنطقة العربية من أعمال عنف مسلّح تحت مظلّة دينية وشعاراتٍ إسلامية؟.
فأيُّ منطقٍ عربي أو إسلامي يُفسّر الآن كيف أنّ هناك هدنةً فـي الأراضي الفلسطينية المحتلّة اقتضت وقف العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما تتصاعد موجة العنف المسلّح فـي عدّة دول عربية وتحت شعاراتٍ إسلامية؟! وهل هي بصدفةٍ سياسية أن يتزامن ذلك كلّه مع ارتفاع التعبئة الطائفـية والمذهبية والإثنية فـي كلّ البلاد العربية!! ففـي غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة داخل البلاد العربية، على مستوى الحكومات والمعارضات، وفـي غياب المرجعية العربية الفاعلة، أصبحت المنطقة العربية مفتوحةً ومشرّعة ليس فقط أمام التدخل الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية التي تجعل المنطقة كلّها تسبح فـي الفلك الإسرائيلي.
قبل أربع سنوات، تردّد فـي «ميدان التحرير» بالقاهرة شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ثم أصبح هذا الشعار عنواناً لانتفاضاتٍ شعبية عربية فـي أكثر من مكان. لكن لم يكن واضحاً فـي كلّ هذه الانتفاضات «كيف سيكون إسقاط النظام» ثمّ ما هو «البديل الذي يريده الشعب»، وأيضاً، ما هو الخطّ الفاصل بين «إسقاط النظام» و«عدم سقوط الوطن». فالفاتحة كانت انتفاضاتٍ بإرادة شعوبٍ مقهورة، لكن الخاتمة اتجّهت نحو تفتيت الأوطان وتدويلها.
حتّى الآن، وحدها التجربة التونسية استطاعت إلى حدٍّ ما أن «تسقط النظام» بطريقةٍ سلمية دون تداعيات خطيرة على أمن الوطن ووحدته وعلى وحدة الشعب فـيه. فتجارب الانتفاضات العربية الأخرى سادها ويسودها الكثير من انحراف المسارات السليمة أو غموض المصير الوطني. لكن رغم أهمّية «التجربة التونسية»، فإنّ تأثيراتها تبقى فـي حدود مكانها وفـي انعكاساتها الإعلامية فقط، بينما ما يحدث الآن فـي البلدان العربية الأخرى هو الذي سيقرّر مصير الأمّة كلّها معاً.
لقد شهدنا فـي الفترة الماضية تفسيراتٍ مختلفة للتراجع الحاصل فـي عموم المنطقة العربية، وللهواجس التي تشغل الآن بالَ كلّ إنسانٍ عربي، لكن قلّة من هذه التفسيرات تضع الإصبع على الجرح العربيِّ الأكبر. فأساس المشكلة هو أصلاً بالمجتمعات العربية نفسها، وبكلِّ من فـيها، وليس فقط بحكّامها أو بما هو قائم من مشاريع ومؤامرات أجنبية.
فأين العرب الآن من المكوّنات الأساسية لمجتمعاتهم، والتي تقوم على الوطنية والعروبة والإيمان الديني؟. فالرسالات السماوية تدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة. و«العروبة» تعني التكامل ورفض الانقسام. و«الوطنية» هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين العرب من ذلك كلّه؟.
إنّ الصراعات الداخلية الدموية الجارية الآن فـي أكثر من بلد عربي، وبروز ظاهرة «داعش» وأعمالها الإجرامية التقسيمية للأوطان وللشعوب، لم تصل كلّها بعدُ بالعرب إلى قاع المنحدر، فما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم. لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإنّ ما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة يمكن أن يكون هو ذاته، خلال الفترة القادمة، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب فـي الفكر والممارسة، فـي الحكم وفـي المعارضة. فقيمة الشيء لا تتأتّى إلاّ بعد فقدانه، والأمّة هي الآن عطشى لما هو بديل الحالة الراهنة من أفكار وممارسات سيّئة. وإذا كانت الحكومات هي المسؤولة أولاً عن حال شعوبها وأوطانها، فإنّ المعارضات هي المسؤولة أخيراً عن مصير هذه الشعوب والأوطان.
Leave a Reply