صبحي غندور
لا أحد يتوقّع طبعاً أن تسفر زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لجزيرة كوبا عن أية تأثيرات دولية هامّة، لكنّها حتماً زيارة مهمّة جداً فـي معانيها الرمزية، وفـيما ستتركه من نتائج إيجابية على العلاقات بين البلدين التي سادها حال القطيعة لأكثر من نصف قرن من الزمن، أي منذ انتصار الثورة الكوبية فـي العام 1959 وسقوط حكومة باتيستا المدعومة من الولايات المتحدة، ثمّ بسبب أزمة الصواريخ الروسية فـي كوبا بالعام 1962، والتي انتهت بسحب الصواريخ مقابل تعهّد أميركي بعدم اجتياح الجزيرة أو التعرّض لها عسكرياً، مع الحفاظ على استمرار القاعدة العسكرية الأميركية فـي «غوانتنامو» المقامة على أرض كوبا منذ العام 1903 بعقد إيجار مفتوح الزمن!.
زيارة الرئيس أوباما لكوبا جاءت تتويجاً لما بدأته إدارته من إعلان فـي نهاية العام 2014 عن السعي لإعادة العلاقات بين واشنطن وهافانا، ثمّ عن إعادة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين فـي العام الماضي. وهو أول رئيس أميركي يزور كوبا منذ العام 1928، ولذلك كسبت هذه الزيارة طابعاً سياسياً هامّاً، لكن قيمتها الفعلية الآن هي فـي توقيتها ومعانيها. فالزيارة حدثت فـي الأشهر الأخيرة من حكم أوباما بالبيت الأبيض، وستكون هي -كما الاتفاق الذي حصل مع إيران- فـي رأس الإرث السياسي له على مستوى السياسة الخارجية، كما أنّ الزيارة سيتمّ توظيفها حتماً فـي الانتخابات الأميركية القادمة فـي شهر نوفمبر، وهي أيضاً ستخدم من دون شك المصالح الاقتصادية والتجارية الأميركية فـي السوق الكوبي الجديد.
ومن المعاني الرمزية المهمّة لزيارة أوباما لهافانا، فشل سياسة المقاطعة والعقوبات فـي تغيير نظام الحكم فـي كوبا أو تغيير سياساته، تماماً كما قال أوباما عن ذلك. لكن الحديث عن كوبا ربّما هو أيضاً «تمرين» لما تراه إدارة أوباما مطلوباً مع إيران أيضاً. فقد حدث هذا التزامن بين التوجّه «الأوبامي» الجديد نحو كوبا وبين نجاح المفاوضات مع إيران فـي العام الماضي، وربّما سيكون الحال مشابهاً هذا العام فـي مستقبل طبيعة العلاقات الأميركية-الإيرانية.
طبعاً أزمة العلاقات الأميركية-الكوبية تختلف فـي ظروفها وموضوعاتها عن أزمة علاقات واشنطن مع طهران، لكن المراهنة على نهج الانفتاح مقابل تأكيد فشل المقاطعة بإسقاط حكومات، هو الذي تريد إدارة أوباما تعميمه الآن.
لقد صمد النظام الشيوعي فـي كوبا لحوالي ستّة عقود، لكنّه لم يقدّم نموذجاً جيّداً فـي الحكم يُحتذى به فـي دولٍ أخرى، خاصّةً بعد سقوط الاتحاد السوفـياتي، وانهيار المعسكر الشيوعي عالمياً، وغياب مصادر الدعم الخارجي لحكم كاسترو. ولولا اضطرار الولايات المتحدة لاحترام اتفاقيتها مع موسكو فـي العام 1962 بعدم التعرّض عسكرياً لكوبا لكانت واشنطن قد اجتاحت هذه الجزيرة ونظامها منذ عقود، تماماً كما فعلت فـي فـيتنام والعراق، وفـي باناما بأميركا الوسطى، حيث اعتقلت القوات الأميركية الرئيس البانامي مانويل نورييغا وأودعته السجون الأميركية أيام حكم الرئيس جورج بوش الأب.
كان فـي أجندة الرئيس أوباما حينما وصل للرئاسة الأميركية أن يغلق «معتقل غوانتنامو» فـي كوبا، وهاهو أوباما يفتح كوبا أمام الأميركيين بينما المعتقل ما زال معتقلاً!. وفـي الحالتين، برزت معارضة «الجمهوريين» لرغبات وقرارات الرئيس «الديمقراطي». فهكذا هي طبيعة الحكم فـي الولايات المتحدة، وما كل ما يتمنّاه «الرئيس» يدركه!.
.. وماذا عن أميركا والعرب؟!
أمورٌ كثيرة تغيّرت فـي نظرة الشعوب العربية للسياسة الأميركية خلال حقبة الخمسين سنة الماضية، وتحديداً منذ اغتيال الرئيس كنيدي فـي العام 1963 وتولّي جونسون مهام الرئاسة الأميركية، حيث أصبح الدعم الأميركي المفتوح لإسرائيل هو الغالب على السياسة الأميركية فـي كلّ العهود التي توالت بعد ذلك، وحيث تفوّق عدائياً عهد جورج بوش الابن على كل ما سبقه، حينما احتلّت أميركا العراق فـي العام 2003.
ولم تكن رؤية البلاد العربية للولايات المتحدة الأميركية فـي مطلع القرن العشرين كما هي عليه الآن فـي مطلع القرن الجديد. بل على العكس، كانت أميركا بنظر العرب آنذاك هي الدولة الداعمة لحقّ الشعوب فـي تقرير مصيرها، وهو الأمر الذي أكّدت عليه «مبادئ ويلسون»، وهي 14 مبدأ قُدِّمت من قِبَل رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون للكونغرس الأميركي بتاريخ 8 كانون الثاني (يناير) 1918 بعد الحرب العالمية الأولى. واستمرّت النظرة العربية الإيجابية لأميركا طيلة النصف الأول من القرن الماضي، خاصّةً أنّ أميركا لم تستعمر أو تحتل، قبل حربها الأخيرة على العراق، أيَّ بلدٍ عربي (كما كان حال عدّة دول أوروبية)، ووقفت واشنطن فـي العام 1956، خلال فترة رئاسة الجنرال أيزنهاور، ضدّ العدوان البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر.
وما هو ملفتٌ للانتباه أنّ عقد الخمسينات من القرن الماضي قد شهد متغيّراتٍ دولية مهمّة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، إضافةً إلى ما كانت تشهده المنطقة العربية وجوارها الإقليمي من تفاعلات كبيرة طالت فلسطين والمشرق العربي ومصر وتركيا وإيران، وبشكلٍ متزامن أيضاً مع صعود الدور الإسرائيلي فـي المنطقة وفـي خدمة المصالح الغربية، التي تمحورت آنذاك بكتلة معسكر «حلف الناتو» تحت قيادة أميركية، فـي مواجهة كتلة دولية أخرى برزت، هي كتلة «حلف وارسو» بزعامة روسية.
وهاهو العالم الآن يشهد متغيّراتٍ دولية وانتقالاً من عصر الإمبراطورية الأميركية التي قادت العالم وحدها لأكثر من عقدين، إلى عصر التعدّدية القطبية، كما يشهد انتقال موسكو من موقع «العدوّ» لواشنطن (كما كان الأمر إبّان الحرب الباردة)، إلى حال «الخصم» (كما فـي السنوات الأخيرة)، ثمّ إلى موضع «الشريك» لواشنطن فـي حلّ الأزمات الدولية وفـي بناء نظامٍ دولي جديد، لموسكو ولواشنطن فـيه، دور الريادة المشتركة.
ونجد أيضاً مع هذه المتغيّرات الدولية الجارية الآن، تطوراتٍ إقليمية هامّة تشمل إيران وتركيا ومستقبل إسرائيل فـي المنطقة، إضافةً إلى تحديد مصير وجود ودور دول عربية مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا.
الملاحظ أيضاً فـي حقبة التحوّلات الدولية والإقليمية الحاصلة أنّ المجمع عليه تقريباً فـي منطقة «الشرق الأوسط»، بما فـيها من عرب وفرس وأتراك وإسرائيليين، هو الغضب المشترك على السياسة الأميركية، وكأنّ واشنطن قد خسرت أصدقاءها ولم تكسب خصومها بعد.
حال السياسة الأميركية فـي «الشرق الأوسط» سيكون مستقبلاً فـي تقديري كما هو فـي «الشرق الآسيوي»، حيث تحرص واشنطن على علاقاتٍ جيدة لها مع كلٍّ من الهند وباكستان رغم ما بينهما من أزمات وحروب، وكما هي أيضاً سياسة التوازنات التي تتبعها واشنطن مع كلٍّ من اليابان والصين. لكن من الواضح أنّ هناك تخلّياً عن السياسة الأميركية التي اتّبِعت فـي حقبة العقد الأول من هذا القرن، وبأنّ هناك موافقة الآن من صُنّاع القرار الأميركي على الأجندة التي حملها معه الرئيس أوباما فـي العام 2009 ولم يقدر على تنفـيذها إلا فـي هذه المرحلة، وهي التي تنهي عهد «الانفرادية الأميركية» فـي قيادة العالم، وتريد استخدام -القوة الناعمة- والتسويات السياسية للأزمات الدولية، بديلاً عن أسلوب الحروب والتورّط العسكري الأميركي فـي خدمة الأهداف الأميركية.
هذا التحوّل الحاصل فـي الأساليب الأميركية يسبّب اعتراض بعض «أصدقاء» أميركا بالمنطقة، وجعل واشنطن من «المغضوب عليهم»، لكن هل العرب تحديداً هم على «صراطٍ مستقيم»؟!. الإجابة هي طبعاً بالنفـي، فالعرب اليوم هم فـي أسوأ حال من الانقسامات والصراعات الداخلية، ومن افتقاد البوصلة السليمة لرشد حركتهم، ومن هيمنة الأفكار والممارسات الطائفـية والمذهبية والإثنية. وهو حالٌ يجعل من الأوطان العربية أرضاً خصبة لكلّ مشاريع التفتيت التي تراهن عليها إسرائيل وأطراف أجنبية عدّة. فالعرب اليوم هم فـي ضلالٍ مبين مسؤولٌ عنه هذا الكمّ المتخلّف ممّن هم فـي مواقع المسؤولية الفكرية والسياسية والدينية. وكما جرى استغلال التخلّف العربي فـي مطلع القرن العشرين لتحقيق هيمنة أوروبية على المنطقة من خلال شرذمة الأرض العربية، يتمّ الآن بناء متغيّرات دولية وإقليمية من خلال توظيف الانقسامات الحاصلة لدى الشعوب العربية. والملامة هنا على العرب أنفسهم قبل أيِّ طرفٍ أجنبيٍّ آخر.
Leave a Reply