عادت الخلافات اللبنانية الداخلية، حول العلاقة مع سوريا، تظهر من جديد، على خلفية الحوار مع النظام فيها، في قضايا النازحين وعودتهم إليها، أو التنسيق بين الجيشين في محاربة الإرهاب، أو في موضوع مختطفين أو مسائل اقتصادية مشتركة.
الأحقاد الشخصية
ويقود معارضة «التطبيع» مع النظام السوري، أطراف قوى 14 آذار، وفي مقدمهم «تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي و«القوات اللبنانية» وحزب الكتائب، وغيرهم ممن لهم نظرة عدائية للعلاقة مع سوريا، من فكر انعزالي طائفي، كالكتائب و«القوات اللبنانية»، أو حقد على القيادة السورية، لأسباب شخصية تقوم على أحقاد، كما في موقف النائب وليد جنبلاط الذي يتّهم النظام السوري باغتيال والده، وأنه سامحه ولن ينسى، وأنه «ينتظر جثة عدوه على ضفة النهر»، وهو ما عبّر عنه بعد انسحاب القوات السورية من لبنان، في العام 2005، ثم مع بدء الأزمة السورية مطلع 2011، حتى أنه عمل على تحريك مجموعات في محافظة السويداء، لإسقاط الرئيس بشار الأسد، الذي ظنّ أن أسابيع قليلة من الحراك في الشارع، ويكون في السجن أو فرّ خارج البلاد أو قتل، لكن كل رهاناته تلك فشلت، وبقي الأسد في السلطة.
أما الرئيس سعد الحريري، فللعنوان نفسه يحقد على النظام السوري، الذي يتّهمه بأنه شريك في اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري مع «حزب الله»، وهو من الذين ساهموا مباشرة في دعم ما سمي «الثورة السورية» عبر المال والسلاح، واعتماد مندوبه النائب عقاب صقر كممثل عنه للتنسيق والتعاون مع المعارضة السورية في تركيا، وفق تقارير إعلامية وأمنية، واعتبر صقر أنه كان يقدم مساعدات غذائية وصحية، كحليب الأطفال وغيره.

بالرغم مما قدمته سوريا للحريري وجنبلاط إلا أنهما انقلبا عليها مع تغير الرياح الدولية والإقليمية
جعجع نسي تاريخه
لذلك يقف هؤلاء ضد عودة العلاقة مع النظام السوري، الذي يعتبره جعجع أنه غير موجود، وهو في حالة الانهيار، وأن سوريا تتقاسمها قوى عدة، ولا مصلحة للبنان في إقامة علاقات مع نظام تسبّب بقتل شعبه وهجّره، وفق وصف جعجع له، وكأن رئيس «القوات اللبنانية» نسي أنه كان هو أحد قادة الميليشيات التي قتلت مواطنيها وهجرتهم، كما صفى رفاقه في «القوات اللبنانية» لاسيما مَن كانوا مع إيلي حبيقة الذي وقّع الاتفاق الثلاثي مع حركة «أمل» و«الحزب التقدمي الإشتراكي» برعاية سوريا، لإنهاء الحرب في لبنان، فغدر به جعجع وقاد انقلاباً ضده، وعلى الاتفاق وأخرجه من المنطقة الشرقية.
ولا ينسى جعجع، أن النظام الأمني السوري مع شريكه النظام الأمني اللبناني زج به في السجن مدة 11 عاماَ، بإلصاق تهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل مطلع عام 1994، لتفتح له ملفات الجرائم التي ارتكبها أثناء الحرب الأهلية، من اغتيال الرئيس رشيد كرامي، واغتيال داني شمعون، ومشاركته في مجزرة إهدن التي أودت بطوني سليمان فرنجية، ومحاولة اغتيال إيلي حبيقة في زحلة، والوزير ميشال المر في إنطلياس، وغير ذلك من الجرائم الموصوفة والموثقة.
الانقلاب على سوريا
وهذا الفريق الذي يناهض سوريا، لاسيما جنبلاط، وهي التي ساعدته في حرب الجبل، ونصّبته أميراً عليه، وقدمته على كل الزعماء في الطائفة الدرزية التي احتكر تمثيلها لبعض الوقت، ومثّل أحادية القرار فيها، في وقت ظهر آل الحريري في لبنان كعائلة سياسية مع الحريري الأب، بفضل النظام السوري ومساعدته من أركان فيه كعبدالحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان.
وبالرغم مما قدمته سوريا، لجنبلاط والحريري، إلا أنهما انقلبا عليها مع تغيير الرياح الدولية والإقليمية، والغزو الأميركي للعراق، وظهور مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، حيث ساهم فريق لبناني ترأسه البطريرك نصرالله صفير بإنشاء «لقاء قرنة شهوان» الذي وضع في أول أولوياته الانسحاب السوري منذ العام 2001، وبأن النظام في سوريا لن يستمر، طالما هو في تحالف مع المقاومة وإيران، لذلك بدأ الإعداد لإخراج سوريا من القرار اللبناني ووضعه في يد أميركا، وهو ما شكّل بداية أزمة سياسية داخلية وانقسام سياسي، ظهر مع التمديد لرئيس الجمهورية إميل لحود، وصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي الذي يطالب الجيش السوري بالانسحاب من لبنان ونزع سلاح المقاومة.
التمثيل الدبلوماسي
وأدّى اغتيال الرئيس رفيق الحريري الى انسحاب الجيش السوري، وتقدم فريق 14 آذار سياسياً وبدا أن ميزان القوى الداخلية في لبنان، بدأ يميل نحو المشروع الأميركي، الذي تُوّج بالعدوان الإسرائيلي على لبنان لسحق المقاومة فيه ونزع سلاحها في صيف 2006، لكن صمود المقاومة أفشل المخطط الأميركي – الإسرائيلي بمساعدة لبنانية من فريق 14 آذار، وأعلن مرشد «ثورة الأرز» وليد جنبلاط أن المقاومة انتصرت، لكنه لم يتراجع واستمر يطالب مع فريق 14 آذار، بنزع السلاح، وإقامة علاقات دبلوماسية مع سوريا، لإنهاء تدخلها في لبنان، فنشأت بين الدولتين اللبنانية والسورية علاقات دبلوماسية، وتعيين سفيرين في كل منهما، واعتبر مَن نادى بها، أنه ربط هذه العلاقة بين الدولتين ، التي شوهتها ممارسات لأفراد كانوا في القيادة السورية، استغلوها لمصالحهم الشخصية، التي تماثلت مع مصالح لأطراف لبنانية أيضاً.
العودة الى سوريا
لم تدم قطيعة فريق إخراج سوريا أو طردها من لبنان، سوى خمس سنوات من 2005 الى 2010، ليبدأ الزحف الى دمشق من الحريري والنائب جنبلاط الذي أعلن اعتذاره من الرئيس السوري، وبدأت القوى السياسية لاسيما أطراف 14 آذار، تتودد لأول سفير لسوريا في لبنان علي عبدالكريم علي، وحاولوا معه استعادة «زمن الوصاية السورية» التي رفضوها، إلا أنهم ما إن اندلعت شرارة الحرب – الفتنة على سوريا، حتى عادوا الى الانقلاب على النظام فيها، إلا أنهم خسروا ما تمنوا أن يحصل له، مع الحرب الكونية عليه، فخرج بعد ست سنوات، يمسك بالقرار، مع تحرير شبه كامل للتراب السوري من الجماعات الإرهابية، وأقرت الدول التي خططت ونفذت الحرب عليه، بأن النظام لن يسقط، وأن الرئيس الأسد باقٍ، وتحولت المعارك باتجاه مجموعات إرهابية تمثلها «داعش» والنصرة، ومَن تفرّع عنهما.
العلاقة الأخوية
فمع الإنجازات العسكرية والسياسية التي يحققها النظام وحلفاؤه في سوريا، مازال فريق سياسي في لبنان، يعيش في أوهامه ويرفض أن يتصل بالدولة السورية، التي مازالت عضواً في الأمم المتحدة، وتشارك في مفاوضات مع أطراف معارضة، وهو ما تسبب بنقاش ساخن ومتوتر، عندما طُرح موضوع إعادة النازحين السوريين داخل الحكومة ، فجاء الرفض من قبل الحريري وجنبلاط وجعجع، وقوى سياسية أخرى، وفي الوقت نفسه يتخذ مجلس الوزراء، قراراً بالإجماع بتعيين سفير جديد للبنان لدى دمشق اسمه سعد زخيا، مع وجود سفير لسوريا لدى لبنان علي عبدالكريم علي الذي يستقبله رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، ووزراء ونواب وقيادات سياسية وحزبية وروحية، ويحضر الاحتفالات الرسمية كالاستقلال وتخريج ضباط في الكلية الحربية.
ويرتبط لبنان بمعاهدة أخوة وتعاون وتنسيق مع سوريا، أقرها مجلس النواب والشعب في الدولتين، وانبثق عنها مجلس أعلى لبناني – سوري يترأسه نصري خوري ومازال منذ العام 1992، وهو ما نصّ عليه اتفاق الطائف لترجمة العلاقة الأخوية بين البلدين.
التنسيق العسكري والأمني
ولم يغب التنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري، منذ أقرت المعاهدة، ومازال المكتب المشترك بينهما قائماً وفيه ضباط من الدولتين، وهو ينسق في القضايا العسكرية، إذ قدم الجيش السوري المساعدة للجيش اللبناني أثناء معارك مخيم نهر البارد في شمال لبنان التي اندلعت نهاية أيار 2007، وهو ساند الجيش في تعقب متسللين من سوريا الى لبنان وبالعكس.
وفي معركة الجرود في السلسلة الشرقية، التي حرر «حزب الله» الجزء الجزء منها في جرود فليطا وعرسال، وبمساعدة الجيش السوري، فإن الجيش اللبناني الذي يتحضر لخوض معركة تحرير جرود رأس بعلبك والقاع مع خروج مسلحي «سرايا أهل الشام» من وادي حميّد ومدينة الملاهي في جرود عرسال، حيث يتوجب عليه أن يستعين بالجيش السوري، لقصف تحركات مسلحي «داعش» الذين يمتدون على مساحة جغرافية في الأراضي اللبنانية والسورية، وهو قائم ولو من دون إعلان عنه، إذ لا ترغب الإدارة الأميركية بحصول أي تعاون وتنسيق لا مع الجيش السوري ولا مع «حزب الله»، وتهدد بقطع المساعدات عن الجيش اللبناني.
زيارة الوزراء
فالرفض لم يتوقف على التواصل مع النظام السوري لتنظيم عودة النازحين، أو قيام تنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري، فإن وزراء «القوات اللبنانية» رفضوا قيام الوزراء حسين الحاج حسن وغازي زعيتر ورائد خوري بتلبية دعوة نظراء سوريين لهم، بحضور افتتاح معرض دمشق الدولي، وقامت حملة من قبل جعجع على عدم تلبية الدعوة، وإنعاش نظام يحتضر، إلا أن الرد كان أن الوزراء لبوا الدعوات بصفتهم الرسمية، حيث أكّد الرئيس نبيه برّي على حق الوزراء بذلك، لأن الجغرافيا تفرض أن يقوم حوار مع الحكومة السورية، وأيّده في ذلك الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، لأن المصلحة اللبنانية اقوى من الجميع ولا يفيد تفجير خلافات حولها مع التطورات الايجابية لصالح النظام مما اضطر الحريري إلى سحب الموضوع عن طاولة مجلس الوزراء، لبقاء الحكومة قائمة، واستمرار ربط النزاع حول المسائل الخلافية.
Leave a Reply