صبحي غندور
الفتن الداخلية العربية الجارية الآن فـي أكثر من مكان، هي حلقة متّصلة بسلسلة الصراع العربي/الصهيوني على مدار مائة عام. فلم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن تنفـيذ «وعد بلفور» بإنشاء دولة إسرائيل دون تقطيع للجسم العربي وللأرض العربية، حيث تزامن الوعد البريطاني/الصهيوني مع الاتفاق البريطاني/الفرنسي المعروف باسم «سايكس- بيكو» والذي أوجد كياناتٍ عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى فـي فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي التي جرت فـي البلاد العربية وبين الصراع العربي/الصهيوني. ولا فصل أيضاً بين أيِّ سعي لاتّحاد أو تكامل عربي، وبين تأثيرات ذلك على الصراع العربي/الصهيوني.
وربّما ما يحدث اليوم على الأرض العربية هو تتويجٌ لحروب المائة سنة الماضية. فالاعتراف الدولي بإسرائيل، ثمّ الاعتراف المصري/الأردني/ الفلسطيني بها، بعد معاهدات «كامب ديفـيد» و«أوسلو» و«وادي عربة»، ثمّ «تطبيع» بعض الحكومات العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، كلّها كانت غير كافـية لتثبيت «شرعية» الوجود الإسرائيلي فـي فلسطين، وللتهويد المنشود للقدس ومعظم الضفة الغربية، فهذه «الشرعية» تتطلب قيام دويلاتٍ أخرى فـي محيط «إسرائيل» على أسس دينية أيضاً، كما هي الآن مقولة «إسرائيل دولة لليهود». فما قاله «نتنياهو» بأنّ (المشكلة مع الفلسطينيين هي ليست حول الأرض بل حول الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية) يوضّح الغاية الإسرائيلية المنشودة فـي هذه المرحلة من المتغيّرات السياسية العربية الجارية الآن فـي مشرق الأمّة العربية ومغربها. فكلّما توسعت الصراعات الطائفـية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، كلّما اقترب الحلم الصهيوني الكبير من التحقّق فـي أن تكون إسرائيل هي الدولة الدينية الأقوى فـي منطقةٍ قائمة على دويلاتٍ طائفـية. فالمراهنة الإسرائيلية هي على ولادة هذه «الدويلات»، التي بوجودها لن تكون هناك لا دولة فلسطينية مستقلة ولا تقسيمٌ للقدس ولا عودة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، بل توطينٌ لهم فـي «الدويلات» المستحدثة وتوظيف سلاحهم فـي حروب «داحس والغبراء» الجديدة بقيادة بعض «الثوار العرب الجدد».!
إنّ ما يحدث الآن على الأرض العربية ليس فقط متغيّرات سياسية محلية تتدخّل فـيها، وتتجاوب مع تفاعلاتها، قوى إقليمية ودولية، فهذه المتغيّرات قد تكون قطعةً فقط من صورة مرسومة مسبقاً لتغييرٍ جغرافـي وديمغرافـي منشود لدول عربية عديدة. ألم تكن الحرب على العراق فـي العام 2003، وما أفرزته من واقع حال تقسيمي للدولة والشعب والثروات، وما مثّلته هذه الحرب من تداخل بين الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، كافـية لتكون نموذجاً عن الهدف الخفـي المرجو من مزيج الحروب الأهلية والتدخّل الخارجي؟! ثمّ ألم يكن درس تقسيم السودان فـي مطلع العام 2011 مؤشّراً على المصير المرغوب لأوطان عربية أخرى؟! وهل كانت نتائج التدخّل الأجنبي فـي ليبيا لصالح الشعب الليبي ووحدته واستقراره؟! رغم ذلك استمرّت بعض قوى المعارضات العربية بالمراهنة على دعم الخارج لمعاركها الداخلية، ويتواصل عربياً تهميش القضية الفلسطينية وتجاهل العامل الإسرائيلي فـي حروب العرب مع بعضهم البعض، وفـي نشأة جماعات التطرّف والإرهاب بالمنطقة التي نرى مثالاً لها، مؤخّراً وليس آخراً، جماعات «داعش» و«النصرة»!.
فكم هو جهلٌ مثيرٌ الآن للتساؤل حينما يتمّ استبعاد الدور الإسرائيلي فـي تفاعلاتٍ داخلية تحدث فـي عدّة أوطان عربية، وحينما لا ينتبه العرب إلى المصلحة الإسرائيلية الكبرى فـي تفتيت أوطانهم وفـي صراعاتهم العنفـية تحت أيِّ شعارٍ كان. فأمن إسرائيل يتحقّق (كما قال أحد الوزراء الإسرائيليين بعد حرب 1967) «حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي». ثم كم هو نكرانٌ لوقائع حدثت فـي حروب أهلية عربية معاصرة، كالحرب الأهلية اللبنانية، حينما كان الدور الإسرائيلي فاعلاً فـيها على مدار 15 سنة، ثم استمرّ بعد ذلك عبر عملاء على كل الجبهات السياسية اللبنانية.
هناك سعيٌ إسرائيلي متواصل، منذ عقودٍ من الزمن، لدعم وجود «دويلات» طائفـية وإثنية فـي المنطقة العربية. هكذا كان تاريخ إسرائيل مع لبنان والعراق والسودان، فشعار «يهودية» دولة إسرائيل، أو «إسرائيل دولة لليهود»، سيكون مقبولاً، ليس دولياً فقط بل عربياً أيضاً، حينما تكون هناك دويلات سنية وشيعية ودرزية وعلوية ومارونية وقبطية وكردية ونوبية وأمازيغية!
أيضاً، نشوء الدويلات الدينية الجديدة فـي المنطقة (كما حصل بعد اتفاقية سايكس- بيكو فـي مطلع القرن الماضي ونشوء الدول العربية الحديثة) سيدفع هذه الدويلات إلى الصراع مع بعضها البعض، وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى، وإلى إقامة تحالفات مع إسرائيل نفسها، كما حصل أيضاً خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية.
وحينما تنشأ هذه الدويلات، فإنّها ستحتاج إلى زيادة ديمغرافـية فـي عدد التابعين لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، ممّا سيسّهل حتماً مشروع توطين الفلسطينيين فـي لبنان وسوريا والعراق وبعض دول الخليج العربي. وفـي ذلك حلٌّ لقضية «اللاجئيين الفلسطينيين»، تُراهن إسرائيل أيضاً عليه.
وفـي حقبة «الصراعات الدموية العربية»، ستواصل إسرائيل بناء المستوطنات فـي القدس والضفة، وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينييّ 1948 لتهجير ما أمكن منهم إلى «دويلات» تحتاجهم عدداً، بل ربّما يكون ذلك، بالتخطيط الإسرائيلي، الوقت المناسب لجعل الأردن «الوطن الفلسطيني البديل» مع أجزاء من الضفة الغربية.
حكومة نتنياهو تتوافق تماماً مع ما سبق ذكره من أجندة فكرٍ وعمل، وهي ما زالت تراهن على صراع دولي/عربي مسلّح مع إيران وعلى صراعات وفتن طائفـية ومذهبية وإثنية فـي الداخل العربي. إذ هذا وحده ما يصون «أمن إسرائيل» ومصالحها فـي المنطقة، وما ينهي نهج المقاومة ضدَّ احتلالها، وما يجعل «العدوّ» هو العربي الآخر (أو الإيراني أو التركي المجاور)، وما يُنسي شعوب المنطقة القضية الفلسطينية، وما يجعل ما حدث من ثورات شعبية، قوّة تغييرٍ وإسقاطٍ لكيانات وأوطان، لا لأنظمةٍ وحكوماتٍ فحسب!.
إسرائيل بمختلف حكوماتها راهنت على تجزئة المجزّأ عربياً، وشجّعت كل الحركات الإنفصالية بالمنطقة، وأقامت «دولة لبنان الحر» على الشريط الحدودي لها مع لبنان فـي ربيع العام 1979 كمدخل لمشاريع التقسيم الطائفـي الذي أعدّت له منذ حقبة الخمسينات من القرن الماضي.
فإسرائيل التي رفضت وترفض قرار تقسيم فلسطين (رقم 181) وهو الاسم الذي أطلق على قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، والذي أُصدر بتاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، هي نفسها التي عملت وتعمل على تقسيم البلاد العربية، إذ أنّ قرار تقسيم فلسطين يعني إعلان حدود دولية للدولة الإسرائيلية ووجود دولة فلسطينية مستقلة على ما هو أشمل بكثير من الضفة الغربية وغزّة، كما يعني وضع مدينة القدس وجوارها تحت الوصاية الدولية، وهي أمور كلّها مرفوضة من كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
إنّ الصراعات والتحدّيات هي قدَر الأمّة العربية على مدار التاريخ، بما هي عليه من موقع إستراتيجي مهم، وبما فـيها من ثروات طبيعية ومصادر للطاقة، وبما عليها من أماكن مقدّسة لكلِّ الرسالات السماوية، لكن ما يتوقّف على مشيئة شعوبها وإرادتهم هو كيفـيّة التعامل مع هذه التحدّيات، وهو أيضاً نوعية التغيير الذي يحدث على كياناتها وفـي مجتمعاتها.
هناك بلا شك خميرة عربية جيدة صالحة فـي كلّ بلدٍ عربي وفـي أكثر من مكان بالخارج، وهي خميرة رافضة لما يحدث بين العرب من انقساماتٍ وتدخّلٍ أجنبي، لكنّها تعاني الآن من صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ السياسي والإعلامي المسيطر، على الرغم من إلاّ أنّ تلك الصعوبات لا يجب أن تدفع لليأس والإحباط بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون فـي وحدة شعوب وأوطان بلدان هذه الأمّة ويشعلون نار الفتنة فـي رحابها بأسماء دينية وبمضامين هي حصراً إسرائيلية.
Leave a Reply